انقلاب "التشارنة"
عربي
منذ أسبوع
مشاركة
... و"التشارنة" مصطلحٌ تحقيريٌّ أشاعته الماكينات الإعلامية التابعة للمليشيات ضدّ المتظاهرين التشرينيّين (في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 وما بعده)، من أجل شيطنتهم وتخوينهم، بل وتكفيرهم، تمهيداً لتصفيتهم وقتلهم. كانت العلاقة بين الطرفَين غير متكافئة، مع غياب الدولة التي تفرض سلطة القانون. وعلى الرغم من تصوير مدوّني المليشيات أنفسهم "ضحايا" مؤامرة أميركية كبرى تُنفّذ بأدوات عراقية، أي "المتظاهرين"، إلّا أنّ الصورة كانت معكوسةً، إذ انفردت المليشيات بالشباب العزّل مثل صيّاد مع طرائده. وعلى الرغم من مرور خمس سنوات على تلك التظاهرات، ما زالت المليشيات، وآلاتها الإعلامية، تُغذّيان سردية المؤامرة والخيانة، وتنفق هذه المليشيات الأموال الطائلة في سبيل ذلك، وتشتري ذمم الإعلاميين، بل وتجذب حتى أولئك "التشارنة" الذين كانت تستهدفهم سابقاً من الإعلاميين والمدوّنين. يعجبني هنا استخدام لفظ "التشارنة"، لأفرّغه من دلالته المليشياوية وأمنحه معنًى جديداً يُميّزهم عن "التشرينيّين"، إذ يبدو أنّ هناك فعلاً "تشرينيّين" و"تشارنة". تشمل التسمية الأولى جميع القواعد الشعبية والنخب التي بقيت على مدى السنوات الخمس الماضية ثابتةً على مبادئها وقناعاتها التي ردّدتها في الساحات، ناقدةً الطبقة السياسية الحاكمة وأخطاءها، ومطالبةً بالعدالة والقصاص من المجرمين الذين تسبّبوا في مقتل أكثر من 700 شاب بريء من دون وجه حقّ، وجرح وإصابة أكثر من 20 ألفاً آخرين، وتهجير الآلاف خارج العراق. أمّا "التشارنة"، بالمعنى الذي أقصده فهم الذين استداروا 180 درجةً، وبدلاً من الهتاف في وجه الجلّاد، جلسوا في جواره وصافحوه، بل صاروا خدماً له. وأعجب هؤلاء هم النوّاب الذين صعدوا في برلمان 2021 بدعم من "التشرينيّين"، بل إنّ نائبةً صرّحت سابقاً بأنها أنفقت مليون دينار فقط على دعايتها الانتخابية، لأنّها لم تكن بحاجة إلى دعاية، فـ"التشرينيّون" في منطقتها كانت أصواتهم كافيةً لرفعها إلى مجلس النواب، وهذا ما حدث. لكنّها اليوم تترشّح لانتخابات نوفمبر (المقبل) تحت ظلّ زعيم سياسي فاسد، وأحد المخرّبين للعملية السياسية، ممّن تسبّبوا في كوارث للعراق. دار أحد النوّاب "التشارنة" على كلّ المليشيات التي كان، مع "التشرينيّين"، يهتف ضدّها في الساحات، لكنّه صار حليفاً لها جميعها، حتى انتهى إلى قائمة مليشياوية في الانتخابات الحالية، وهذا من العجائب والمفارقات. لكنّ العجب يخفّ حين نعلم أنّ هناك أزمة مزدوجة لدى الطرفَين: "التشارنة" والمليشيات. يعرف الطرف الأول أنه لا يستطيع العودة إلى قواعده "التشرينيّة" الجماهيرية التي رفعته سابقاً إلى البرلمان، خصوصاً في ظلّ حالة الإحباط واليأس من قدرة الانتخابات على إحداث تغيير. وكان عجز وضعف النوّاب الذين صعدوا البرلمان على أكتاف احتجاجات تشرين أحد أهم أسباب هذا الإحباط واليأس. لا ترى كثير من القواعد الشعبية لتشرين فائدةً من إعادة انتخاب نائب لم يفعل شيئاً لهم في الدورة السابقة، فضلاً عن أنّ نسبة كبيرة منهم ترفض المشاركة في الاقتراع أصلاً. أمّا الأحزاب التقليدية والممثّلة للمليشيات، فتمرّ بمأزق مشابه؛ إذ لا تستطيع جذب أصواتٍ أكثر من التي حصلت عليها في انتخابات 2021 الماضية، التي كانت قليلةً قياساً بالأصوات التي حصدها التيّار الصدري مثلاً. وتفيد مؤشّرات عديدة بأنّ جزءاً ممّن صوّتوا لها في الانتخابات السابقة يشعرون اليوم بأنها متناقضة وضعيفة، على خلفية الأحداث الإقليمية الجارية وحرب الاثني عشر يوماً بين إيران وإسرائيل، وأنّ نفوذها بات أضعف، ما يزيد من احتمالات خسارتها نسبة أكبر من الأصوات. لذلك، تسعى هذه الأحزاب إلى وجوهٍ جديدة أقلّ "مليشياوية" وأكثر "تشرينية". لكن لا يوجد ما يؤكّد أنّ هذه التركيبة ستكون صالحةً للاستعمال يوم الاقتراع. ما زالت المطالب التي رفعها "التشرينيّيون"، من النخب والقواعد الشعبية، قبل خمس سنوات، صالحةً لتكون أساساً لبدايةٍ حقيقيةٍ لبناء الدولة والنظام السياسي في العراق. وما زال هذا النظام يلتفّ عليها ولا يريد مواجهتها. ومن أهم تلك المطالب حصر السلاح بيد الدولة، وحلّ جميع المليشيات، وفرض سلطة القانون على الجميع أيّاً كانوا، والتعامل مع العراقيين بصفتهم مواطنين لا أبناء طوائف وإثنيات.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية