
عربي
تقف إسرائيل عند نقطة تحول حاسمة بعد عامين من السابع من أكتوبر/تشرين الأول: هل ستسمح للصدمة الجماعية بأن تتحول إلى استنزاف بمليارات الدولارات للاقتصاد، أم ستجري استثمارًا استراتيجيًا في شعبها لتحويل الأزمة إلى محرّك للنمو؟ ففي الأسبوع الماضي، أصدرت وزارة الدفاع الإسرائيلية بيانات مذهلة تشير إلى أنه منذ بداية الحرب، تم الاعتراف بحوالي 20 ألف جندي مصابين، معظمهم يعانون من إصابات نفسية. إذ يُظهر التقرير أن 56% من المرضى في قسم إعادة التأهيل بالوزارة يعانون من اضطرابات عقلية حادة، مع توقعات بحدوث عشرات الآلاف من الحالات الجديدة بحلول عام 2028. هذه ليست صدمة مؤقتة؛ بل أزمة مستمرة تهدد بإغراق المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين، بحسب موقع "Ynet Global".
بدأت التكلفة الحقيقية تتضح، فالصدمة تتسرب إلى كل منزل، الأسر تتفكك، الأزواج ينفصلون، والأطفال يعانون من القلق، فيما يواجه الجنود القدامى صعوبة في الاندماج مجددًا في سوق العمل. وأظهرت دراسة نُشرت في مجلة "ذا لانسيت" أن معدلات اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق تضاعفت تقريبًا في أوساط السكان الإسرائيليين. وتشير النماذج الحالية إلى أن 5.3% من إجمالي المواطنين سيصابون باضطراب ما بعد الصدمة، وهو رقم يشمل آلاف الجنود المقاتلين.
أما نظام الرعاية الصحية، فيعاني من اختناق حقيقي. فالأمراض النفسية غير المعالجة تتحول إلى أمراض عضوية كأمراض القلب والسكري واضطرابات المناعة الذاتية، بينما تتزايد نسب الانتحار في صفوف العسكريين. أكثر من 40 جنديًا أنهوا حياتهم منذ بداية الحرب، 16 منهم خلال العام الماضي وحده، في إشارة إلى عمق الانهيار النفسي الذي يضرب المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني على السواء.
أزمة اقتصادية وطنية بتكلفة 50 مليار دولار
لم تعد هذه مجرد أزمة اجتماعية أو صحية، بل أزمة اقتصادية وطنية، فقد توقعت دراسة أجرتها مؤسسة التمويل الاجتماعي في إسرائيل (Social Finance Israel) أن العبء الوطني لاضطراب ما بعد الصدمة الناتج عن الحرب قد يكلف الاقتصاد الإسرائيلي 50 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. وتكشف التفاصيل أن كل حالة من اضطراب ما بعد الصدمة تكلف الاقتصاد ما بين 1.8 مليون إلى 2.2 مليون شيكل (حوالي 500 ألف إلى 600 ألف دولار) على مدى الحياة. والأهم أن 74% من هذه التكلفة لا تعود إلى العلاج، بل إلى فقدان الإنتاجية والتوظيف، فيما تتوزع النسبة المتبقية بين تكاليف الرعاية الصحية المباشرة 18% ومشكلات ثانوية مثل الإدمان 8%.
في الوقت نفسه، تواجه إسرائيل تضخمًا متزايدًا في نفقات الحرب، حيث تجاوزت ميزانية الجيش 28% من الإنفاق العام بعد مضاعفة المخصصات الحربية. كما ارتفعت معدلات العجز المالي إلى مستويات غير مسبوقة منذ حرب 2006، وسط تباطؤ في النمو وتراجع في الاستثمارات الأجنبية. قطاع التكنولوجيا، الذي مثّل لسنوات محرك النمو الإسرائيلي، بدأ يفقد جاذبيته، مع هجرة عشرات الشركات الناشئة إلى الخارج بسبب انعدام الاستقرار والأعباء الضريبية الجديدة.
من الصدمة إلى النمو: فرصة كامنة
وبحسب بحوث علمية حول ظاهرة "النمو بعد الصدمة" التي طوّرها العالمان ريتشارد تيديسكي ولورانس كالهون منذ التسعينيات، يمكن أن تؤدي الشدائد الهائلة إلى تغييرات إيجابية عميقة. فكثير من الناجين من الصدمات يبلغون عن تقدير متجدد للحياة، وعلاقات أعمق، ومرونة شخصية أكبر، وإحساس جديد بالهدف.
وتظهر بوادر هذا التحول في إسرائيل بالفعل؛ فالمحاربون القدامى يطلقون مبادرات اجتماعية، والمجتمعات تعيد البناء بإحساس قوي بالتضامن، والعائلات تعزز روابطها. بعد عامين، تقف إسرائيل أمام مفترق طرق واضح: إما أن تقبل مستقبلًا من ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، وتفكك الأسر، وفقدان الإنتاجية؛ أو أن تختار بناء إطار وطني يحوّل المحاربين القدامى والضحايا من مصدر للألم إلى محرّك للصمود والقيادة والابتكار.
وقبل حرب غزة، كانت إسرائيل تتفاخر بكونها اقتصاد الابتكار في الشرق الأوسط مدعومة بقطاع تكنولوجي نشط ونظام مالي متنوع. لكن منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، تغيّر المسار جذريًا، فالإنفاق العسكري تضاعف على حساب التعليم والصحة، الديون العامة ارتفعت لتتجاوز 65% من الناتج المحلي، سوق العمل تعاني من نقص حاد في اليد العاملة بسبب الاستدعاءات العسكرية والإصابات، السياحة انهارت، وقطاع الطيران تكبد خسائر فادحة، والاستثمارات الأجنبية المباشرة تراجعت بأكثر من 60% خلال عام 2024 وحده.
ومع استمرار الحرب، تتآكل ثقة المستثمرين والمستهلكين على حد سواء. البنوك الإسرائيلية تواجه ارتفاعًا في القروض المتعثرة، بينما تتزايد معدلات البطالة بين الشباب. وفي ظل استمرار الإنفاق العسكري بلا أفق سياسي للحل، يبدو الاقتصاد الإسرائيلي مقبلًا على مرحلة انكماش مزمن يرافقه تآكل في الطبقة الوسطى وتراجع القدرة الشرائية.
من اقتصاد الصدمة إلى اقتصاد العزلة
بينما تحاول الحكومة الإسرائيلية تحويل الأزمة إلى خطاب عن الصمود والنمو بعد الصدمة، تكشف الأرقام أن البلاد تتجه نحو اقتصاد الصدمة الدائم لا التعافي. فالأعباء النفسية، والعجز المالي، والاعتماد المفرط على الإنفاق العسكري، كلها تؤسس لمرحلة انكماش اقتصادي واجتماعي طويل الأمد.
إن تحويل الصدمة إلى مشروع وطني ليس بالضرورة علامة قوة، بل محاولة لتجميل واقع من الإنهاك البنيوي الذي يهدد تماسك المجتمع الإسرائيلي ويقوض استقراره الاقتصادي. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة واستمرار الاحتلال والحروب المتكررة، يبقى اقتصاد إسرائيل رهينة سلاحها، أسير دورة لا تنتهي من العنف والإنفاق العسكري، يدفع ثمنها المواطنون الإسرائيليون أنفسهم، قبل أن تنعكس تبعاتها على المنطقة بأكملها.
