
عربي
منذ العقد الأخير تحوّل الذكاء الاصطناعي من مجالٍ بحثيٍّ ضيق إلى قوة اقتصادية مركزية تحرّك استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية حول العالم. فقد تجاوز دوره الأكاديمي، ليصبح ركيزة رئيسية في استراتيجيات الشركات الكبرى — من مزوّدي الخدمات السحابية إلى شركات التكنولوجيا والتصنيع والتجارة الإلكترونية. ويقبل المستثمرون والأفراد على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي طمعاً في اللحاق بموجة التحول التكنولوجي التي يُتوقّع أن تُحدث تغييراً جذرياً في الاقتصاد العالمي خلال القرن الـ21، مع إمكانيات نموٍّ هائلة للشركات التي تتولى الريادة في هذا القطاع.
نموٌّ غير مسبوق في السوق العالمية
بلغت قيمة سوق الذكاء الاصطناعي العالمي نحو 136.55 مليار دولار عام 2022، بنموٍّ سنوي قدره 37.3%. ويرتبط هذا النمو بالبحث والابتكار المستمرين من عمالقة التكنولوجيا، إضافة إلى تبنّي الشركات الصناعية والتجارية والحكومية لهذه التقنية في قطاعات مثل السيارات والرعاية الصحية والتجزئة والتمويل. وبحسب موقع "ماركت ريسرش"، يُتوقَّع أن يصل حجم السوق إلى 826.73 مليار دولار بحلول عام 2030، بعد أن كان 93.27 ملياراً في عام 2020، ما يعكس طفرة استثمارية غير مسبوقة في التاريخ التكنولوجي الحديث.
يشهد القطاع انفجاراً في الإنفاق الرأسمالي على البنية التحتية السحابية ومراكز البيانات. فشركات التكنولوجيا الكبرى، مثل أمازون، وألفابت، وميتا، ومايكروسوفت، رفعت إجمالي إنفاقها الرأسمالي من أقل من 100 مليار دولار قبل خمس سنوات إلى نحو 300 مليار دولار حالياً. كما تشير بيانات "تراند فورس" إلى أن قيمة صناعة الخوادم بلغت 306 مليارات دولار عام 2024، منها 205 مليارات لخوادم الذكاء الاصطناعي وحدها، مع توقّع ارتفاعها إلى 298 مليار دولار عام 2025 لتشكّل أكثر من 70% من قيمة الصناعة.
ووفق "رويترز"، تقود شركة إنفيديا (NVIDIA) سباق الشرائح والمعالجات، إذ أصبحت منتجاتها من فئة Blackwell العمود الفقري لمعالجة البيانات في أنظمة الذكاء الاصطناعي، فيما تسارع الشركات السحابية الكبرى، مثل غوغل وأمازون AWS، إلى تصميم شرائحها الخاصة ASIC، لخفض التكاليف وتعزيز الأداء.
شركات ناشئة تغيّر قواعد اللعبة
إلى جانب عمالقة السوق، صعدت شركات ناشئة لافتة جذبت استثمارات بمليارات الدولارات، مدرجة في قائمة وكالة بلومبيرغ و"هبسبوت" ونشرها موقع انسايدر مونكي، أبرزها:
• OpenAI: تأسست عام 2015 على يد إيلون ماسك وسام ألتمان، وجمعت تمويلاً يفوق 1.3 مليار دولار، وتقدَّر قيمتها السوقية بين 27 و29 مليار دولار.
• Anthropic: شركة أبحاث وسلامة الذكاء الاصطناعي، بتمويل 1.5 مليار دولار وقيمة تقديرية 4.1 مليارات دولار.
• Inflection AI: أسّسها مصطفى سليمان من DeepMind، بتمويل 1.5 مليار دولار وبقيمة أربعة مليارات دولار.
• Tempus: متخصصة في الطب الدقيق والتحليل الجيني، بقيمة 8.1 مليارات دولار.
• Dataiku، Highs pot، Alpha Sense، Shield AI، Builder.ai، Cohere، جميعها تجمع بين التحليلات الضخمة والتطبيقات التجارية المبتكرة، بقيم تراوح بين 2 و3.7 مليارات دولار.
وتُظهر بيانات موقع "سي إنسايتس" أن 69 من أصل 100 شركة ناشئة رائدة في الذكاء الاصطناعي مقرها الولايات المتحدة، تليها المملكة المتحدة وكندا، في حين تُعد شركة Mistral AI الفرنسية مثالاً على الصعود الأوروبي المتسارع بعدما جمعت 544 مليون دولار خلال أقل من عام.
حجم الاستثمار والعوائد
وفق Bain & Company، من المتوقع أن تنفق الولايات المتحدة نحو 500 مليار دولار سنوياً على الذكاء الاصطناعي حتى نهاية العقد، بينما ترى Morgan Stanley أن الاستثمارات التراكمية في مراكز البيانات الأميركية قد تصل إلى ثلاثة تريليونات دولار بحلول 2029، وترفع McKinsey & Co هذا التقدير إلى خمسة تريليونات دولار بحلول 2030.
لكن تقديرات الإيرادات اللازمة لتبرير هذه الطفرة الاستثمارية لا تزال موضع نقاش، إذ تشير Bain إلى ضرورة تحقيق نحو تريليوني دولار من الإيرادات الإضافية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي بحلول 2030 لتغطية التكاليف. ومع ذلك، يرى خبراء أن العوائد الحالية لم تصل بعد إلى مستويات تحقق عائدات مستدامة على رأس المال.
صفقة إنفيديا وأوبن إيه آي: تحالف استراتيجي
في سبتمبر/ أيلول 2025، أعلنت إنفيديا (Nvidia) وأوبن إيه آي (OpenAI) عن اتفاق استثماري بقيمة تصل إلى 100 مليار دولار، يقضي بتزويد الأخيرة بشرائح مراكز البيانات المتقدمة. الاتفاق يمنح إنفيديا حصة مالية في أوبن إيه آي، ويمنح الأخيرة تمويلاً لتوسيع بنيتها التحتية. كما وُقّع خطاب نوايا لتشغيل عشرة جيغاواط من أنظمة إنفيديا لصالح أوبن إيه آي، وهي طاقة تعادل استهلاك أكثر من ثمانية ملايين منزل أميركي.
وقد ارتفعت أسهم إنفيديا عقب الإعلان بنسبة 4.4% إلى مستوى قياسي، بينما زادت أسهم أوراكل (Oracle) بنحو 6%، إذ تتعاون مع أوبن إيه آي ومايكروسوفت وسوفت بنك في مشروع Stargate الذي تبلغ قيمته 500 مليار دولار لبناء مراكز بيانات ذكاء اصطناعي عالمية. لكن محللين، مثل ستايسي راسغون من شركة Bernstein، حذروا من ظاهرة "التمويل الدائري" حيث تعود أموال الاستثمار إلى إنفيديا على شكل مشتريات شرائح، وهو ما قد يثير مخاوف تنظيمية مستقبلية.
فقاعة استثمارية تتضخم
تشير تحليلات رويترز Breakingviews إلى أن شركات التكنولوجيا تضخ تريليونات الدولارات في سباق الذكاء الاصطناعي، ما خلق فقاعة استثمارية تغذيها ثلاث معضلات:
- مأزق المبتكر: الخوف من التراجع يدفع الشركات إلى إنفاق مفرط خوفاً من فقدان موقعها الريادي.
- معضلة السجين: كل شركة تخشى أن يؤدي توقفها عن الاستثمار إلى فقدان حصتها لصالح منافسيها.
- معضلة المستثمر: من لا يشارك في "الحمّى" يخسر الأداء، ومن يشارك يخاطر بالانفجار.
ففي الوقت الذي حقق فيه سهم Nvidia ارتفاعاً يقارب 350 ضعفاً خلال العقد الماضي، وارتفع سهم Oracle بنسبة 36% في يوم واحد بعد إعلانها أن إيراداتها السحابية ستبلغ 144 مليار دولار بحلول 2030، تبقى الأرباح طويلة الأجل غير مؤكدة. وتقرير "أم.أي.تي" أشار إلى أن 95% من الشركات التي دمجت الذكاء الاصطناعي لم تحقق بعد أي عائد ملموس.
المنطقة العربية تدخل السباق
تسعى الشركات العربية إلى تعزيز مكانتها في سباق الذكاء الاصطناعي:
- شركة الاتصالات السعودية STC أطلقت STC.AI لتأسيس أول سحابة ذاتية للذكاء الاصطناعي في المملكة.
- الشركة العربية للتعهدات الفنية تحالفت مع SCAI لتنفيذ مشروع الإعلانات الذكية في الرياض.
- شركة عِلم عززت تعاونها مع SCAI لدعم التحول الرقمي الحكومي.
- "سبايس 24" في الإمارات تعمل على دمج الذكاء الاصطناعي بتقنيات الفضاء والطاقة.
- "ألفا داتا" وقّعت مذكرة مع "إنتل" لتطوير حلول ذكاء اصطناعي في الرعاية الصحية والتعليم.
البيانات هي الذهب الجديد
تُعد إدارة البيانات أكبر تحديات العصر الرقمي. فالشركات تحتاج إلى كميات ضخمة من البيانات لتدريب النماذج، بينما تفرض بعض الدول قيوداً على تخزين البيانات ونقلها عبر الحدود. لكن رغم هذه العقبات، تشير الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي قادر على رفع إنتاجية العمالة العالمية خلال العقد المقبل، عبر تحسين الكفاءة وتوجيه الموارد البشرية نحو مهام ذات قيمة مضافة أكبر.
سوق الذكاء الاصطناعي اليوم هو مزيج من الطموح التكنولوجي والاستثمار المالي الهائل، يقوده عمالقة مثل مايكروسوفت، وإنفيديا، وأمازون، وغوغل، مدعومين بشركات ناشئة مبتكرة وصناديق استثمار ضخمة. لكن خلف هذه الطفرة تكمن مخاطر الفقاعة الاستثمارية وتحديات الكلفة العالية، في سوقٍ يزداد تركّزاً حول عدد قليل من الشركات. لذلك، السنوات المقبلة ستحدّد إن كان الذكاء الاصطناعي سيصبح أعظم ثورة اقتصادية في القرن الحادي والعشرين — أم أضخم فقاعة استثمارية جديدة.

أخبار ذات صلة.

حرية الصحافة في أميركا
العربي الجديد
منذ 8 دقائق