
عربي
رغم انتهاء مدة تجربة الصيرفة الإسلامية في روسيا مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، إلا أن السلطات المالية الروسية قررت تمديد التجربة القائمة على الشراكة في التمويل لثلاث سنوات أخرى حتى سبتمبر 2028، ما يعكس الرهانات على الآفاق طويلة الأجل للقطاع في ظل تنامي عدد المسلمين في البلاد والذي يقدر بنحو 20 مليونا، بالإضافة إلى انفتاح موسكو على الشراكة الاقتصادية مع بلدان العالم الإسلامي، وعلى رأسها دول الخليج.
إلا أن ثمة تساؤلات تفرض نفسها حول آفاق توسع نطاق الصيرفة الإسلامية على مستوى عموم روسيا، حيث أن النظام التجريبي لا يزال يقتصر على التواجد في أربعة كيانات إدارية ذات الأغلبية المسلمة، وهي داغستان والشيشان وبشكيريا وتتارستان. ومع ذلك، تشير بيانات المصرف المركزي الروسي إلى أن قائمة المصارف المصرح لها بإجراء معاملات الشراكة في التمويل تشمل حاليا عدة مصارف كبرى مثل أكبر مصرف روسي "سبير" (حكومي) والمصرف الإلكتروني الابتكاري "تي بنك". وفي إطار التجربة، تجري هذه المصارف معاملات مالية أقرب إلى الشراكة في التمويل بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية التي تحظر الربا وتمويل عدد من قطاعات الأعمال مثل ملاهي القمار وإنتاج الكحول.
توقعات بتنامي القطاع
وترى الأمينة التنفيذية للجمعية الروسية للخبراء في مجال الصيرفة الإسلامية، مدينة كليمولينا، أن هناك آفاقا رحبة لتطوير قطاع الصيرفة الإسلامية في روسيا في ظل الاهتمام الذي يحظى به هذا النوع من الخدمات، مقرة في الوقت نفسه بأن إحداث نقلة في نطاق انتشاره يتطلب مزيدا من التحسين للإطار القانوني وتدريبا للعاملين بقطاع المصارف وتعزيزا للتعاون الدولي.
وتقول كليمولينا التي تحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، في حديث لـ"العربي الجديد": "ثمة آفاق رحبة لتطوير قطاع الصيرفة الإسلامية في روسيا، ومن مؤشرات ذلك أن عدد المصارف المعتمدة والمدرجة على قائمة المصرف المركزي تجاوز الـ30 مصرفا بعضها مملوك للدولة والبعض الآخر للقطاع الخاص. كذلك نرصد عاما بعد عام توسعا لقائمة الخدمات التي تقدمها هذه المصارف وغيرها من اللاعبين في السوق".
وتلفت إلى أن المشاركة في تجربة الصيرفة الإسلامية لا تقتصر على المؤسسات المالية والائتمانية، بل تشمل أيضا جمعيات تعاونية ومنصات استثمارية وفئات أخرى من المؤسسات، بما في ذلك من مناطق محتملة جديدة للتجربة، مشيرة إلى أن بورصات السلع تبدي هي الأخرى اهتماما بالقطاع، ما يعكس أن الصيرفة الإسلامية تلاقي تجاوبا على مختلف المستويات. وتعتبر تمديد الاختبار لثلاث سنوات خطوة إيجابية، مضيفة: "لا يزال هناك عمل تشريعي يجب إنجازه، ولكن توسيع قائمة الخدمات المصرح بتقديمها في إطار الصيرفة الإسلامية، يشكل إشارة إيجابية، مما يمهد الطريق نحو تنمية السوق، بما في ذلك عبر إشراك مؤسسات أجنبية. بحسب تقديراتي، حتى قبل تبني القانون في عام 2023، كان قطاع الصيرفة الإسلامية يسجل نموا بنسبة 40% سنويا".
وحول رؤيتها للإجراءات اللازمة للارتقاء بهذه الوتيرة، تتابع: "ينبغي توسيع النطاق الجغرافي للاختبار وتدقيق التشريعات في المسائل مثل الضرائب والتأمين، وتوسيع البرامج التعليمية في مجال الصيرفة الإسلامية سواء للطلاب أو المحترفين، وتعزيز التعاون مع المنظمات الدولية المعنية، وفي مقدمتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (أيوفي)، علما أن العمل على هذه المسارات يجري بالفعل".
مواكبة إعادة هيكلة الاقتصاد
من جهتها، تعتبر الباحثة بقسم الدراسات الاقتصادية بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، إلميرا إيمانكولييفا، أن توسيع نطاق اعتماد الصيرفة الإسلامية في روسيا بما لا يقتصر على الأقاليم ذات الأغلبية المسلمة، سيخدم الاقتصاد الروسي في زمن إعادة هيكلته، مقرة في الوقت نفسه بأنه لا يزال هناك تحدي وضع منظومة قانونية ومؤسساتية واضحة لتطوير القطاع.
وتقول إيمانكولييفا في حديث لـ"العربي الجديد": "في ظروف إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي، قد يساعد تمديد وتوسيع تجربة الصيرفة الإسلامية في جعلها متاحة في الأقاليم الروسية كافة، وليس فقط في بضع جمهوريات ذات الأغلبية المسلمة. لكن الأهم في المرحلة الراهنة هو وضع منظومة قانونية ومؤسساتية واضحة لتطوير قطاع الصيرفة الإسلامية".
وتلفت إلى أن هناك طريقين لتطوير قطاع الصيرفة الإسلامية، مضيفة: "أولا، وضع قاعدة قانونية ومؤسساتية تمهيدا لإطلاق خدمات الصيرفة الإسلامية من الصفر، وثانيا، البدء بوضع آلية كاملة للتمويل الإسلامي والشراكة في التمويل مع إرجاء تبني القاعدة القانونية المتكاملة، وهو الطريق الذي سلكته روسيا". ومن بين العوامل التي قد تعرقل تنمية قطاع الصيرفة الإسلامية في روسيا، تذكر إيمانكولييفا تدني مستوى اطلاع السكان على طبيعتها ونقص الخبراء القادرين على إيصال فحوى صفقات التمويل الإسلامي وطبيعتها إلى عملاء المصارف. ومع ذلك، تخلص إلى أنه "في ظروف توجه روسيا شرقا، فإن الصيرفة الإسلامية تكتسب بعدا مهما ضمن السياسات الروسية عموما بما يتجاوز كثيرا نطاق تقديم الخدمات لسكان الأقاليم الروسية ذات الأغلبية المسلمة".
وتجدر الإشارة إلى أن أول تجربة للصيرفة الإسلامية في روسيا تعود إلى مصرف "بدر فورتيه" الذي عمل في السوق الروسية لمدة 15 عاما تخصص خلالها في المشاريع المشتركة لرؤوس الأموال الروسية والعربية وأخرى من الدول الإسلامية حتى سحب ترخيصه في نهاية عام 2006، وهو قرار أرجعه المصرف المركزي الروسي حينها إلى مخالفة المصرف قانون "مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب".
جذب أموال الخليج
بدوره، يرجح المحلل المالي المستقل، ألكسندر رازوفايف، أن تزداد حصة التمويل الإسلامي في إجمالي التمويل بالقطاع المصرفي الروسي إلى 5% خلال عشر سنوات، متوقعا أن تساعد الصيرفة الإسلامية روسيا في جذب مزيد من الاستثمارات الخليجية. ويقول رازوفايف في حديث لـ"العربي الجديد": "بحلول نهاية العام، قد يبلغ مجموع حجم الأعمال ما بين 10 و15 مليار روبل (أي ما بين 125 و200 مليون دولار وفق لسعر الصرف الحالي)، ولكن حصة الصيرفة الإسلامية في إجمالي التمويل بالقطاع المصرفي قد تبلغ 5% خلال عشر سنوات".
وحول رؤيته لنافذة الفرص التي تفتحها الصيرفي الإسلامية أمام الاقتصاد الروسي، يضيف: "المغزى الرئيسي من اعتماد الصيرفة الإسلامية هو جذب أموال من دول الخليج، بالإضافة إلى الالتفاف على العقوبات وفقا للنموذج الإيراني. حان وقت لبورصة موسكو أن تطلق مؤشرا إسلاميا لجذب أموال المسلمين من كافة أنحاء العالم والبالغ عددهم نحو ملياري شخص".
وعلى مدى السنوات العشر الأخيرة، أظهرت روسيا انفتاحا كبيرا على العالم العربي عموما ومنطقة الخليج خصوصا، وسط ترقب انعقاد أول قمة روسية عربية في موسكو في 15 أكتوبر/تشرين الأول المقبل. وعلى الصعيد الاقتصادي، ترجم التقارب الروسي العربي إلى إتمام مجموعة من الصفقات الكبرى، بما فيها استحواذ جهاز قطر للاستثمار في نهاية عام 2016، على 19.5% من أسهم أكبر شركة نفط روسية "روس نفط" بقيمة فاقت عشرة مليارات يورو ضمن تحالف مع شركة غلينكور السويسرية لتجارة النفط، فيما يعد أكبر صفقة خصخصة في تاريخ روسيا.
داخليا، ما يعزز توجه روسيا نحو مزيد من الانفتاح على الصيرفة الإسلامية، الزيادة المطردة في عدد معتنقي الإسلام الذي يعتبر ثاني أكثر ديانة انتشارا في روسيا بعد المسيحية الأرثوذكسية، فيما تتركز غالبيتهم في جمهوريات شمال القوقاز وجمهوريتي تتارستان وبشكيريا، بالإضافة إلى العاصمة موسكو التي يقطنها ما لا يقل عن مليوني مسلم، بمن فيهم المغتربون الأجانب والعمال الوافدون من الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى.
