
عربي
في بداية شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، نشرت الصحافة الفرنسية معلومات عن نيّة رجل الأعمال برنارد آرنو بيع صحيفة لو باريزيان لصالح مجموعة رجل الأعمال فينسان بولوري. تداعى موظفو الصحيفة الفرنسية إلى جمعية عامة، وصوّتوا بالإجماع على رفض أي محاولة للبيع، وتحديداً لصالح مجموعة بولوري. في الوقت نفسه، أرسل العاملون رسالةً إلى المالك الحالي آرنو، مشيرين فيها إلى التداعيات "الكارثيّة" للصفقة في حال صحّت المعلومات.
قبل أيام، ومع استمرار أجواء التوتّر والضبابيّة حول مصير المطبوعة، صوّتت الأغلبية في الصحيفة على إضراب عن العمل لمدة يومين. احتجبت "لو باريزيان" عن الصدور يوم الجمعة 26 أيلول. وقد تزامن الإضراب مع معلومات صحافية عن خلافات داخل عائلة الملياردير برنارد آرنو بين مؤيد ومعارض لبيع الصحيفة، حيث تواجه المجموعة خسائر مالية (ولا سيما مع رفع الولايات المتحدة الضرائب على البضائع)، ما يستدعي التخلّص ممّا يُثقل كاهل مجموعة "أل في إم أش" (شركة للسلع الفاخرة). وصحيفة لو باريزيان لا تتوقف عن مراكمة الخسائر المالية، فقد سجّلت في عام 2024 خسائر بقيمة 33 مليون يورو، بحسب معلومات نشرتها صحيفة لو موند.
خلال شهر سبتمبر أيضاً، انتشر خبر إتمام مجموعة "سي إم إيه | سي جي إم"، المملوكة من رجل الأعمال الفرنسي رودولف سعادة، صفقة شراء منصة بروت الرقمية الفرنسية (لإنتاج الفيديوهات). وأصدرت المجموعة بياناً بمناسبة إتمام الصفقة، معتبرة أنه بإتمامها صارت المجموعة "جزءاً أساسيّاً من المشهد الإعلامي الفرنسي، مع قدرة في الوصول إلى جميع الفئات...". علماً أن هذه المنصة الرقمية ليست أولى ممتلكات سعادة في الساحة الإعلامية.
وخلال هذا الشهر أيضاً، انتشر مقطع تلفزيوني للإعلامي الفرنسي باسكال برود، وهو ينتقد برنامجاً يُبثّ على قناة تي إف 1. انتقد برود البرنامج ومذيعه، لأنه يحمل بحسب رأيه أفكار أقصى اليسار الفرنسي، ويسعى جاهداً لمنع وصول اليمين إلى السلطة. وفي سياق الكلام، عبّر برود عن استهجانه لقبول رجل الأعمال مارتين بويغ ببث برنامج مشابه في قناته "تي إف 1". ولوضع الخبر في سياقه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ باسكال برود، إعلامي فرنسي محافظ ويميني يعمل في قناة سي نيوز، المملوكة من مجموعة رجل الأعمال فينسان بولوري (المحافظ واليميني). وتُعتبر "سي نيوز" قناةً مُتحدّثة باسم أقصى اليمين الفرنسي المُحافظ. أمّا "تي إف 1" فيملكها رجل الأعمال الفرنسي مارتين بويغ.
إذاً يتمحور نقد برود حول مسألة عدم تدخّل رجل الأعمال في الخطّ التحريري لقناته، وعدم قمعه للصحافيين وتطويعهم. ولم يتردّد برود للحظة في التصريح والاستهجان على الهواء مباشرةً، أمام ملايين المشاهدين الفرنسيين، وهو أمر أثار الكثير من ردات الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي.
في الخبر الأول، معلومات عن احتماليّة بيع منصة إعلامية فرنسية من ملياردير إلى آخر. في الخبر الثاني، إتمام صفقة بيع منصة إعلامية لرجل أعمال صاحب ثروة كبيرة. وفي الخبر الثالث، إعلامي فرنسي يُسائل رجل أعمال عن عدم قمعه وإسكاته للأصوات في القناة التي يملك.
في الأخبار الثلاثة، يرد ذكر أربعة رجال أعمال يملكون منصات إعلامية فرنسية. لا غرابة في هذه الأخبار، حيث تتركّز أغلب المنصات الإعلامية المؤثرة في الرأي العام الفرنسي بيد تسعة رجال أعمال. تُهدّد هذه الظاهرة الديمقراطية والتعدّدية في الإعلام، وهي موضوع لكثير من الدراسات والتقارير، وكذلك للجهات الرسمية العاملة على تطوير القوانين الإعلامية بما يكفي لحمايتها من هذا التركّز المهدد للديمقراطية والحرية. كما أن الظاهرة تستدعي طرح أسئلة جديّة حول مدى مساهمتها في تأخير مواكبة الإعلام (تحديداً الصحافة المكتوبة) للتطوّر التكنولوجي اللازم من أجل استمراريّتها؛ حيث يتخوّف كثيرون من أن الهدف الأساسي لوضع اليد على الصحافة المكتوبة هو للتحكّم في الكلمة، وليس بالضرورة تطوير المؤسسة لدرّ الأرباح أو دفعها إلى الاستمرارية في ظلّ جوّ عام متحوّل ومتغير.
نقلاً عن تقرير للباحثة في مجال الاقتصاد جوليا كاجي: 51% من الشركات الخاصة المالكة للصحافة المطبوعة والرقمية هي مؤسسات من قطاع الخدمات المالية والتأمين. وفي تحقيق لمنصة باستا الفرنسية (إعلام مستقل)، يتبيّن أن 90% من الصحف الفرنسية اليومية مملوكة من عشرة رجال أعمال فقط. وهؤلاء أنفسهم يملكون عدداً من القنوات التلفزيونية والإذاعية التي تمثّل على التوالي: 55 و40% من حصص الجمهور (نسب المشاهدة والاستماع).
وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن سعي رجال الأعمال إلى توسيع إمبراطوريتهم الإعلامية، وإن كانت أهدافهم اقتصادية بحتة؟
في منتصف العام الفائت، تمّ تعليق عمل مدير تحرير صحيفة محلية في جنوب فرنسا، وذلك بعد نشر عنوان رئيسي اعتُبر مسيئاً للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (من مقرّبين من الرئيس). تعود ملكية الصحيفة إلى رجل الأعمال الفرنسي رودولف سعادة، وجرى الحديث في الصحافة في ذلك الوقت عن تدخّل المجموعة المالكة في قرار تعليق مدير التحرير عن عمله، بسبب اعتراضهم على خياره التحريري وأفكاره السياسية. حينها، نظّم الصحافيون العاملون إضراباً عن العمل، احتجاجاً على التدخّل المزعوم في استقلالية الصحافة، معتبرين ما حصل تدخّلاً مرفوضاً في الخطّ التحريري وتهديداً للحريات الصحافية. وتزامنت هذه الحادثة مع سعي مجموعة سعادة إلى توسيع استثماراتها الإعلامية، وتحديداً شراء قناة بي إف أم الفرنسية (وهي صفقة تمّت فعلاً في وقت لاحق).
ربما لم يتدخّل سعادة شخصيّاً، ولكن لا يُمكن النظر إلى فصل مدير تحرير بسبب عنوان صحافي سياسي، عن المصالح الاقتصادية والسياسية الكبيرة للرجل. وهذا ما قد يكون أحد أول الأسباب التي تدفع رجال الأعمال لتوسيع إمبراطورياتهم الإعلامية. شراء المنصات الإعلامية يعني السيطرة على الكلمة، وما يتمّ تداوله من معلومات يؤثر سواء على السلطة الحاكمة أو المعارضة. وليس خفيّاً أن المصالح الاقتصادية تستدعي توسيعاً للنفوذ السياسي، وهذا ما يتمّ من خلال التحكّم في الإعلام لاستخدامه كلّما استدعت الحاجة. ولكن أيضاً، وبشكل أساسيّ ومباشر، حماية النفوذ الاقتصادي والمصالح.
لا ينفصل الاقتصاد عن السياسة، ووجود أهداف سياسية وربما طموح أمر شائع لدى بعض رجال الأعمال وأصحاب الثروات. ليس بالضرورة طموح بالمشاركة المباشرة في العمليّة السياسية، ولكن بالحدّ الأدنى مساعدة التيارات السياسية ممّن يحملون أفكاراً وأيديولوجيات معيّنة في الوصول إلى الحكم.
ما عبّر عنه الإعلامي باسكال برود (العامل في قناة سي نيوز الإخبارية)، أي استهجانه من عدم تدخّل صاحب القناة الملياردير بويغ في الخطّ التحريري لقناة تي إف 1 الفرنسية، يُحيلنا على ما يحصل في قناة سي نيوز وجميع المنصات الإعلامية المملوكة من رجل الأعمال والملياردير فينسان بولوري. إمبراطورية بولوري الإعلامية محطّ قلق ومتابعة من الكثير من الجمعيات العاملة في موضوع حرية الصحافة، وكذلك الكثير من الشخصيات السياسية والإعلامية الفرنسية، حيث تطغى التوجهات الفكرية المُحافظة واليمينية على جميع المنصات التي يملكها بولوري.
تترأس قناة سي نيوز الإخبارية قائمة المؤسسات المؤثرة في فرنسا، بخطابها اليميني المتشدّد الذي يُساهم كثيراً في تشكيل الرأي العام الفرنسي، والتأثير على الانتخابات وتحالفاتها السياسية. وفي هذا السياق، بعد حوالي السنتين من شراء بولوري صحيفة لو جورنال دو ديمانش الفرنسية، عيّن بشكل مفاجئ مديراً جديداً للتحرير. استدعى تعيين هذا المدير الجديد المحافظ والأقرب إلى اليمين المتشدّد، حالة من التوتر في الصحيفة. ذهبت هيئة التحرير في الصحيفة إلى خيار الإضراب عن العمل حينها، معتبرين أفكار القادم الجديد متناقضة ومعايير صحيفتهم. لم ينتج عن الإضراب شيء، واحتلّ المدير الجديد منصبه، ونقل الصحيفة لتصير جزءاً من المنصات الإعلامية التابعة بخطّها التحريري لأفكار مالكها بولوري.
ولكن تأثير بولوري لا يتوقف عند هذا الحدّ؛ يتطرّق وثائقي (2021) من إنتاج منظمة "مراسلون بلا حدود" إلى الدور الذي يلعبه بولوري في تكميم أفواه الصحافيين عبر الملاحقات القضائية المكثفة لكل من يجرؤ على إجراء تحقيقات صحافية حول أعمال مجموعته في أفريقيا. تكميم جماعيّ للأفواه يترافق غالباً مع حملات إعلامية عبر القنوات والإذاعات والصحف التي يملكها. ومدّ هذه الحملات لا يتوقف عند الصحافيين المعنيين، بل يمتدّ عبر خلق حالة من الخوف من التطرّق إلى كل ما يخصّ أعمال الرجل.
أسفل عنوان السياسة والاقتصاد عناوين كثيرة فرعية، من صناعة الرأي العام إلى الرغبة في إدارة الأزمات أو خلقها... جميعها أسباب تدفع رجال الأعمال إلى الاستثمار في هذا المجال. ولكن هذا التركّز في الإعلام الفرنسي مصدر قلق جديّ، ولا يستدعي المزيد من العمل على تعديلات وقوانين، أملاً في حماية الساحة الإعلامية وتنظيمها ومعها الرأي العام.

أخبار ذات صلة.

حرية الصحافة في أميركا
العربي الجديد
منذ 14 دقيقة