سلسلة الفكر الشرطي الحديث
رسمي
منذ أسبوع
مشاركة

 

سبتمبر نت/ مقال – عميد ركن / نجيب سعد الناصر

تواجه المجتمعات الحديثة تحدياً متزايداً في الحد من الجريمة، إذ لم تعد الأدوات التقليدية القائمة على الردع والعقوبات كافية لمواكبة التحولات الاجتماعية والتقنية. وفي هذا الإطار برزت نظرية الوكز (Nudge Theory) التي طورها ريتشارد ثالر وكاس سنستين في العام (2008) كأحد تطبيقات الاقتصاد السلوكي الهادفة إلى توجيه السلوك الإنساني نحو خيارات إيجابية دون إكراه أو إلزام.

تقوم هذه النظرية على مبدأ “التنبيه الناعم” الذي يدفع الأفراد لاتخاذ قرارات أفضل من خلال تعديل بيئة الاختيار لا تغيير القوانين، وقد أثبتت التجارب الاقتصادية فاعليتها في تحسين السلوك، مثل تشجيع الأفراد على تقليل استهلاك الطاقة عبر رسائل مقارنة استهلاكهم بغيرهم.

ويمكننا توظيف نظرية الوكز في تطوير سياساتنا الأمنية لتصبح أداة فعالة للوقاية من الجريمة عبر هندسة السلوك المجتمعي بطرق ذكية وغير مكلفة، تقوم على التكامل بين الدولة والمجتمع. ويتحقق ذلك من خلال مجموعة من المحاور العملية والتطبيقات الميدانية، أبرزها:

١- التخطيط الحضري والأمني المشترك:

يُسهم تصميم المدن وتنظيم الأسواق وفق معايير أمنية في تقليل معدلات الجريمة؛ فإضاءة الشوارع والممرات المظلمة تحد من السرقات والتحرشات، كما أن توزيع الكاميرات والإشارات التحذيرية في الأماكن العامة يعزز الرقابة الوقائية والشعور بالأمان.

٢- المراقبة الطبيعية:

إن تصميم الحدائق والمجمعات السكنية والمرافق العامة بطريقة مفتوحة تسمح بالرؤية المتبادلة بين الأفراد يقلل فرص ارتكاب الجرائم، ويجعل السلوك المنحرف مكشوفاً أمام الآخرين.

٣- استخدام التكنولوجيا الذكية:

يُعد تركيب كاميرات المراقبة في أماكن التجمعات مع لافتات واضحة تشير إلى أن “المكان مراقَب” من أنجع أساليب الوكز الأمني، إذ يخلق شعوراً دائماً بالرقابة النفسية حتى دون متابعة فعلية، مما يعزز الردع الوقائي.

٤- تحفيز السلوك الإيجابي:

تُعد الرسائل التوعوية القصيرة مثل “شارك في الإبلاغ عن الجريمة لتكون مدينتك أكثر أماناً” وسيلة فعالة لتعزيز روح المسؤولية المجتمعية وتشجيع التعاون الطوعي مع الأجهزة الأمنية.

٥- الوكز المؤسسي:

إن إلزام المؤسسات والمنشآت الاستثمارية بتطبيق معايير الأمان كالإضاءة الكافية، ومخارج الطوارئ، والكاميرات، والحراسة الدائمة، يعزز الأمن التنظيمي دون فرض إجراءات قسرية.

٦- هندسة الاختيار:

حيث تقوم على تشجيع الأفراد على الالتزام بالنظام طوعاً عبر جعل الخيار الآمن هو الأسهل، مثل تصميم الممرات في الأسواق لتقليل الازدحام والاحتكاك الذي قد يؤدي إلى المشاجرات.

٧- المراقبة الرمزية:

إن استخدام إشارات ولافتات توحي بوجود رقابة، مثل عبارة “المنطقة مراقَبة بالكاميرات”، يسهم في الحد من السلوكيات المنحرفة ويزيد الشعور بالانضباط الذاتي.

٨- إبراز السلوكيات الإيجابية:

حيث ان عرض النماذج المجتمعية المنضبطة في وسائل الإعلام المختلفة يرسخ ثقافة المسؤولية والانضباط، ويعزز الاتجاهات السلوكية الإيجابية لدى الجمهور.

٩- التنظيم والتقييم المستمر:

إن تحسين الإضاءة العامة وتنظيم مواقف السيارات ومراقبة أثر هذه التدخلات على معدلات الجريمة يعكس تطبيق مبدأ “التقييم القائم على النتائج” في تطوير السياسات الأمنية.

ختاماً:

نؤكد أن دمج نظرية الوكز في سياساتنا الأمنية يمثل تحولاً نوعياً من منهج العقوبة إلى منهج الوقاية، ومن الردع إلى التوجيه. فبدلاً من الاقتصار على ملاحقة الجريمة بعد وقوعها، نسعى من خلال هذه النظرية إلى إعادة هندسة السلوك الاجتماعي وتصميم بيئات حضرية واقتصادية تشجع على السلوك الإيجابي وتحد من فرص الانحراف.

وبذلك يصبح الوكز الأمني مدخلاً عملياً لتعزيز أمننا المجتمعي بتكلفة منخفضة، عبر تكامل جهود الدولة والمجتمع والقطاع الخاص، فكل تدخل بسيط في التصميم الحضري، أو رسالة توعوية مدروسة، أو نظام مراقبة ذكي، يمكن أن يغير سلوكاً ويقي مجتمعنا من الجريمة من خلال تعزيز الوعي وتحفيز السلوك المسؤول، وهو ما يجسد جوهر الوكز في خدمة السياسات الأمنية الحديثة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية