
عربي
حتى وقت قريب من وفاته، اليوم الأحد، كان وزير الخارجية الجزائري الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي منشغلاً بترتيب صدور كتاب له ( هو الآن قيد الطبع)، جمع فيه المقالات والخطب التي ألقاها باسم الجزائر في المنابر الأممية والإقليمية والعربية خلال فترة شغله منصب وزير للخارجية بين عامي 1982 و1988، ويُبرز هذا تغلب هاجس الثقافة والكتابة على الجانب السياسي في حياة الرجل ومساره النضالي.
ولهذا الهاجس سبب واضح، فأحمد طالب الإبراهيمي هو نجل الشيخ البشير الإبراهيمي، أحد أقطاب النهضة والحركة الإصلاحية في الجزائر وثاني رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وتشكلت الروح الوطنية والمرجعية الإصلاحية لدى طالب الإبراهيمي ضمن هذا المناخ الأسري، لكنه سيتمثل بشكل أكثر بروزاً مع إسهامه ونضاله في صفوف الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، خلال فترة دراسته الطب في فرنسا، وكان هذا الاتحاد الطلابي أحد الأذرع النضالية لجبهة التحرير الوطني لتأطير الطلبة.
ينحدر الإبراهيمي من منطقة سطيف شرقي الجزائر( من مواليد عام 1932)، وتلقى تعليمه في منطقة تلمسان أقصى غربي الجزائر، حيث كانت جمعية العلماء المسلمين افتتحت دار الحديث، قبل أن ينتقل إلى العاصمة التي استكمل فيها دراسته وحصل على شهادة البكالوريا، توجه بعدها إلى كلية الطب، وقد كانت الكلية الوحيدة بالجزائر في تلك الفترة الاستعمارية، قبل أن يغادر إلى باريس لاستكمال دراسة الطب حيث سيكون له دور بارز في العمل الطلابي. وبسبب نشاطه لصالح الثورة الجزائرية قامت السلطات الفرنسية باعتقاله وإيداعه السجن في فبراير/شباط 1957، حيث قضى فترة اعتقاله في السجن نفسه الذي نُقل إليه الزعماء الخمسة (محمد بوضياف، أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد، محمد خيضر، مصطفى الأشرف)، الذين اختطفتهم فرنسا بعد قرصنة الطائرة التي كانوا يستقلونها من المغرب باتجاه تونس، وأتاح له ذلك الاحتكاك بقادة الثورة البارزين، وعزز لديه الشعور الوطني والدافعية النضالية لأجل استقلال الجزائر الذي تحقق في يوليو 1962.
الإبراهيمي وزيراً للخارجية
بعد الاستقلال وعودته مع والده إلى الجزائر، وفي ظل صراع القيادات على السلطة، رفض الإبراهيمي الانحياز إلى أي طرف، وفضل التوجه نحو العمل طبيباً في مستشفى وسط العاصمة الجزائرية (مصطفى باشا حالياً). عاش الإبراهيمي محنة تضييق السلطات في عهد الرئيس الأسبق أحمد بن بلة على والده نتيجة رفضه دعم خيارات بن بلة (يذكر الإبراهيمي في مذكراته أنه رفض استقبال بن بلة بعد عودة هذا الأخير إلى الجزائر من المنفى، وكتب أنه مستعد لمسامحة من أساء إليه، لكنه ليس مستعداً لمسامحة من أساؤوا إلى والده). ليقوم الرئيس التالي للجزائر هواري بومدين، الذي نجح في الانقلاب على بن بلة في يونيو 1965، بتعيين طالب الإبراهيمي وزيراً للتربية حيث عمل على مشروع تعريب التعليم، ثم وزيراً للثقافة والإعلام. وفي وقت لاحق ارتأى بومدين إلحاق الإبراهيمي بالرئاسة مستشاراً، حيث كان أحد أبرز المقربين منه وهو من رافقه في فترة مرضه الأخيرة حتى وفاته في ديسمبر/كانون الأول 1978.
وفي عهد الرئيس الشاذلي بن جديد جرى تعيين الإبراهيمي وزيراً للخارجية، في أعقاب الوفاة الدرامية لوزير الخارجية الراحل محمد الصديق بن يحيى الذي سقطت طائرته فوق الأجواء بين العراق وإيران. ويؤكد الدبلوماسيون، الذين عملوا إلى جانب الإبراهيمي، أن أحد أبرز جهوده في الوزارة هو قيامه بتحديثها وتجهيزها وتغيير الكثير من قواعد العمل الدبلوماسي، ويعد المعلم الأول لأربعة من وزراء الخارجية، رمطان لعمامرة وعبد القادر مساهل وصبري بوقادوم والوزير الحالي أحمد عطاف. وبعد تفجر انتفاضة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، وفي غمرة انشغاله بالتحضيرات المتعلقة بانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، الذي استضافته الجزائر بداية نوفمبر/تشرين الأول من العام نفسه، قرر الإبراهيمي تقديم استقالته استجابة للتطورات التي حصلت بعد هذه الانتفاضة وتوجه البلاد إلى الدخول في عهد التعددية السياسية.
ابتعد الإبراهيمي عن الساحة السياسية لفترة، لكن مع تسارع الأحداث في البلاد مع التوتر الحاد وبروز مؤشرات العنف السياسي في الجزائر، بين السلطة وإسلاميي الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المحظورة منذ مارس/آذار 1992)، عاد الإبراهيمي ليلعب دور وسيط غير معلن بين الطرفين، بحكم كونه رجل دولة من جهة والتقدير الذي يكنه الإسلاميون له ولوالده بوصفه مرجعية إصلاحية من جهة أخرى. وحاول الإبراهيمي تقديم نصائح إلى قيادات الإنقاذ، وحذرهم من الصدام مع الجيش والسلطة، وسعى إلى إقناعهم بعدم السيطرة على أغلبية مقاعد البرلمان، في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 1991، قبل أن يقرر الجيش وقف المسار الانتخابي في يناير/كانون الثاني 1992.
الإبراهيمي وبوتفليقة
في غضون الأزمة الأمنية الدامية التي اندلعت بالجزائر في أعقاب إلغاء الانتخابات، انحاز الإبراهيمي إلى خيار المصالحة ووقف إراقة الدماء، وحاول رفقة عدد من الشخصيات السياسية، رسم معالم حل سياسي والدفع باتجاهه. وكان يشجع الجيش والسلطة على تبني خيار الحوار والمصالحة، حتى عام 1999، حيث تقرر إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ورشح الإبراهيمي نفسه في هذه الانتخابات في وجه مرشح السلطة عبد العزيز بوتفليقة، لكنه قرر الانسحاب يوم الاقتراع برفقة ستة مرشحين آخرين (حسين آيت أحمد وعبد الله جاب الله ومقداد سيفي ويوسف الخطيب ومولود حمروش)، احتجاجاً على ما اعتبروه تزويراً للانتخابات لصالح بوتفليقة. ووجد الإبراهيمي في القاعدة الشعبية العريضة التي التفت حوله، أرضية لبناء حزب سياسي، حيث أسس حركة الوفاء عام 2000، لكن السلطة رفضت اعتماد هذا الحزب، بحجة احتوائه على قاعدة واسعة من إسلاميي الإنقاذ الممنوعين من ممارسة العمل السياسي بسبب مسؤولياتهم على الأزمة الأمنية.
شكل هذا الموقف محاولة سلطوية لتجميد نشاطه السياسي، لكنه رفض تهميشه سياسياً وأصدر في عهد بوتفليقة سلسلة بيانات وتقديرات سياسية في بعض المحطات والأزمات، حيث عبر عن رفضه تعديل الدستور في عام 2008 من قبل بوتفليقة للاستمرار في الحكم، واتخذ موقفاً ضد ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة، وحذر من تداعيات ذلك. مع انفجار الحراك الشعبي بالجزائر في فبراير/شباط 2019 عبر الإبراهيمي عن دعمه لمطالب الشارع الجزائري في التغيير السياسي، وحرص على إصدار بيانات تعزز هذا الموقف وتطالب بحوار سياسي وطني، وكان لافتاً أنه كان من أكثر الشخصيات السياسية التي رفع الحراك الشعبي صورها في المظاهرات، التي استمرت حتى انتخابات ديسمبر/كانون الأول2019، التي حملت عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم والذي زار الإبراهيمي في بيته تقديراً له ولوزنه السياسي.
حرص الإبراهيمي على البقاء على تواصل مع الشأن الثقافي، عبر النشاط في بعض الندوات والمؤتمرات السياسية وكذلك الكتابة والتأليف. وأصدر أربعة أجزاء من مذكراته التي تطرق فيها بالتفصيل إلى كامل مساره النضالي والسياسي والمحطات المختلفة التي عاشها وكان شاهداً عليها، وقدم فيها روايته لأحداث ومسارات مهمة في تاريخ الجزائر. كما ألف كتاباً عن الأزمة الأمنية في الجزائر بعنوان" الأزمة والحل"، وكتاباً آخر عن الثورة الثقافية بعنوان"من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية وكتاب "رسائل من السجن"، إضافة إلى كتاب قيد الطبع بعنوان "مذكرات دبلوماسية، مجموعة نقالات وخطب"، قدم له وزير الخارجية الحالي أحمد عطاف .
