
عربي
رواية هدى بركات "هند أو أجمل امرأة في العالم" تبدأ من عنوانها. ليست هند في الرواية حاضرة إلا كذكرى، إنها الأخت الأجمل التي رحلت قبل ولادة هنادي، شخصية الرواية. كانت هند فائقة الجمال، كذلك كانت هنادي قبل أن تصيبها الأكروميغاليا، تضخّم الأطراف والعِظام الذي يحوّلها إلى مسخ. هنادي هكذا لن تعود بشراً إلا من بعيد، ليست امرأة ولا رجلاً ولا إنساناً ولا حيواناً، إنها ذلك كلّه. قد يدعونا ذلك إلى أن نفّكر مليّاً بمسخ كافكا، إنها الأُسرة الروائية ذاتها، لكن مع اختلاف كلّي.
الأكروميغاليا مرض حقيقي موجود في الرواية بكل أُسسه العِلمية، لكننا مع ذلك، سنكون قبالة حياة صادرة عنه حتى قبل حدوثه، إذ إن الرواية حُبلى به حتى قبل أن يبدأ. موت هند الأجمل سيكون تمهيداً له، كذلك اختفاء الأب، الذي لن نعثر عليه أو على خبره إلا في نهاية الرواية. ستبقى أُمّها في بالها، ولن تتوقف عن تذكارها، لكن الأُمّ التي تصل إلى الزهايمر، هي بذلك جزء من هذا الغياب. ليس لهنادي إذن سوى جسدها الممسوخ، هذا الجسد سيكون حياتها التي لا حياة سواها. إنه حقيقتها، وهي تجرّه من باريس إلى بيروت، ومن شخص إلى آخر، بدون أن يترك ذلك أثراً كبيراً فيها.
حكاية جسد ممسوخ يستعيد الحياة عبر التذكّر لا عبر الحاضر
إنها موجودة مكاناً وزماناً فيه، حياتها تكاد تكون مختفية داخله، بل تكاد تكون استشباحاً له. حياة نجدها مع ذلك ذات مسار وذات وقائع، بل هي في تفاصيلها تقترب من أن تشكّل واقعاً، تستطرد فيه وتنحدر إلى حدّ بعيد، إلى أن يبدو الواقع نفسه دونياً سفلياً مهملاً وعارضاً. إنها تلتقي بأُناس بعضهم لهم أثر طيب، وإن كانوا مع ذلك ليسوا طبيعيّين بالكامل. هناك المرأة الذكر، وهناك الفرنسي المغربي الذي لا تعرف عنه ذلك إلا عرضاً، هناك السائق الذي يختفي ويقول عنه معلّمه، إنه جاسوس قضى قتلاً. أشخاص يمرون في حياتها بدون حضور حقيقي، تمضي مع الواحد أوقاتاً لكن كأنها لم تقع، أو كأنها مرشحة من البدء للغياب، مرشحة لما بعد الحدوث، إنها تقع كأنها لا تقع، تقع بدون أن تسجّل شيئاً في حينها، بدون أن تستشعر هنادي بها.
لكن حياة هنادي الفعلية هي رجوع دائماً إلى الخلف، إنها تكوّم ذكريات، بل إنها ليست سوى هذه الذكريات. الأشياء في حينها لا تعني لها سوى الضجر والضيق واللامبالاة، لكن الأمر يختلف حين تنقطع، وأحياناً بإرادتها وقرارها. إنها بعد ذلك تتحول إلى حقائق، تتحول في غيابها إلى حياة وإلى واقع. لن نجد هنداً التي سبقتها إلى الحياة، والتي رغم ذلك تُلابسها في الاسم والشكل، بحيث أنها تكاد تكون سابقة على نفسها. سنجد الأُم كثيراً، حين أخفتها في العلّية، لكننا لا نعرف، بالدرجة ذاتها، كيف غابت عن حياتها ومتى وأين.
فرانسوا رشيد الذي كان لها معه ما يشبه الحبّ، أو ما صار كذلك بعد انتهائه. نبيل الذي اختفى وقيل إنه استشهد، أحمد الذي يجد لها أخاها ويكشف سرّ اختفاء أبيها. إنها جميعها وقائع لم تحدث، لفرط ما وقعت، وهي وقائع حدثت بعد حدوثها. تحولت إلى حياة بفضل الاختفاء، وبفضل تذكار هو كلّ ما تبقّى من الطبيعية للمسخ التي تبدأ من الخلف. يكون لها أخت وتكون لها أُمّ ويكون لها أصدقاء وأَحبّة، بل وتمنُّ عليها الحياة، التي توقفت في جسدها، بفانتازيا الأب الشهيد، عندئذ تجود الحياة المفرطة في سفليتها، وفي استشباحها، وفي عاديتها المفرطة، تجود عليها بهذه الفانتازيا، وكأنها حياة أُخرى لها، وهدية غير متوقّعة.
تبدأ هنادي بفضل هذه الحياة التي تعود إليها بالتذكّر، تبدأ برصف أفعال إرادية، هي التي كانت طوال الوقت هامدة فارغة، تبدأ تقول "أحبّ" و"أحزن" و"أشتاق". لقد عرف الجسد الممسوخ نسمات من حياة حقيقية، إنها الحياة تأتي من الخلف، تأتي من تذكار يعيد بناءها ويعيد اختراعها، إنها الحياة تهبّ عليها من ماضٍ لا تلبث أن تجده أمامها، ماض لها وليس لها، لكنها لا تلبث أن تخترعه وأن تستردّه. حين تتكلم هنادي، في نهاية الرواية عن استواء وصلت إليه نعرف أننا صرنا هنا وأن رواية كهذه في جدّتها وسياقها تستحق أن تُقرأ.
* شاعر وروائي من لبنان
