حضانات سورية... قرارات الإغلاق تضاعف أعباء الأسر
عربي
منذ أسبوعين
مشاركة
في أحد أحياء دمشق القديمة، تضطر سناء البكداش، الموظفة في القطاع العام، إلى إبقاء طفلتها ذات الأربع سنوات في المنزل، بعدما تلقت اتصالاً من إدارة الروضة الخاصة، تخبرها بأنها ستغلق أبوابها "حتى إشعار آخر"، بناءً على قرار صادر عن مديرية التربية في محافظة دمشق. وتقول الأم الثلاثينية لـ"العربي الجديد": "كنت أظن أنني أؤمّن لطفلتي فرصة التعلم والاختلاط، لكن لم يعد أمامي سوى إبقائها في المنزل، فالبحث عن روضة أخرى يكلف رسوماً خيالية". وفي مطلع العام الدراسي الحالي، أصدرت مديريات التربية في عدد من المحافظات السورية سلسلة قرارات أغلقت بموجبها عشرات من رياض الأطفال، بحجة "عدم استيفاء الشروط القانونية للترخيص"، أو "مخالفة الأنظمة التعليمية". لكن خلف هذه العبارات العامة، يؤكد عدد من المعلمين والأهالي أن السبب الأبرز يرتبط بتشديد الرقابة على المناهج، ورغبة الحكومة في حصر التعليم المبكر ضمن مؤسسات تابعة لها، أو خاضعة للإشراف المباشر. ولم يقتصر الإغلاق على الروضات الخاصة، بل شمل أيضاً الغرف التي كانت مخصّصة لرعاية الأطفال داخل بعض الوزارات والمؤسسات الحكومية، والتي شكلت لسنوات حلاً عملياً للأمهات العاملات. هذه الغرف، وإن كانت متواضعة في إمكاناتها، وفّرت على كثيرٍ من النساء عناء البحث عن حضانة لأطفالهنّ في أثناء ساعات الدوام. تُعتبر بشرى الكناكري، الموظفة في مؤسسة خدمية بالعاصمة دمشق، واحدة من الأمهات اللواتي تأثرن مباشرة بالقرار، إذ اعتادت طوال السنوات الأربع الماضية أن تصطحب طفلَيها معها صباحاً إلى مقر عملها، لتودّعهما في غرفة مخصصة للأطفال داخل مبنى المؤسسة. وتقول لـ"العربي الجديد": "كانت الغرفة أشبه بروضة صغيرة تضم ألعاباً بسيطة ومعلمات يتولّين رعاية الأطفال. كنت أطمئن عليهما خلال الاستراحة، وأشعر أنني أدّيت واجبي أمّاً وموظفة في آن. اليوم أجد نفسي أمام خيارين، أحلاهما مرّ، إما أن أتركهما في المنزل على عاتق جدتهما المريضة، وإما أن أدفع مبالغ تفوق راتبي لروضة خاصة". ويؤكد نقيب المعلمين في سورية، محمد مصطفى، لـ"العربي الجديد" أن إغلاق الغرف التي كانت تُستخدم روضاتٍ داخل الوزارات والمؤسسات الحكومية ليس موجهاً ضد الأمهات العاملات أو الأطفال، بل يأتي في إطار "تصحيح قانوني" يهدف إلى إنهاء حالة الفوضى التي رافقت هذا القطاع خلال السنوات الماضية. ويوضح أن تلك الغرف لم تكن في الأصل روضات، بل كانت صفوفاً مدرسية قديمة جرى التنازل عنها مجاناً للدوائر الحكومية، لتستفيد منها مؤقتاً في رعاية أبناء الموظفين، لكن مع الوقت تحوّلت إلى ما يشبه الروضات من دون أي ترخيص رسمي، ما خلق تداخلاً مع المؤسسات التعليمية المرخصة. ويضيف مصطفى: "نُعيد اليوم الأمور إلى نصابها، فالغرف المستردّة ستعود لوزارة التربية، وكل مؤسسة تعليمية ستعمل ضمن تراخيص قانونية واضحة. العملية تُنفذ بشكل تدريجي ومنظّم، والمرحلة المقبلة ستشهد التوسع في الروضات المرخصة، مع العمل على تقنين وضع أي مؤسسة غير نظامية لتصبح جزءاً من قطاع التعليم المبكر الرسمي. الإجراءات تهدف إلى تحسين جودة التعليم وضمان وصوله بشكل مجاني ومنظم إلى جميع الأطفال، إضافة إلى تخفيف الأعباء المالية عن كاهل الأهالي، وتوفير بيئة تعليمية أفضل من تلك التي كانت قائمة. مرحلة الفوضى انتهت، واليوم نعمل ضمن القانون، وبعيداً عن الاستثناءات والحلول المؤقتة التي لم تكن تضمن الجودة ولا العدالة التعليمية". رغم هذه التبريرات، يبقى الأهالي أمام خيارات محدودة، حيث إن عدد الروضات المرخصة رسمياً لا يغطّي الحاجة، فيما ارتفعت رسوم البدائل المُتاحة إلى مستويات باهظة. يشرح محمود الإبراهيم، وهو أب لثلاثة أطفال، أن رسوم الروضات الخاصة الباقية في دمشق تجاوزت نصف مليون ليرة سورية (نحو 44 دولاراً أميركياً) شهرياً للطفل الواحد، أي ما يعادل تقريباً نصف راتب موظف حكومي. ويقول لـ"العربي الجديد": "حتى لو وجدت مكاناً لطفلي، من أين سأؤمّن المبلغ؟"، مضيفاً أن بقاء الأطفال في المنازل يؤثر على نموهم الاجتماعي وتقدمهم التعليمي، ويضاعف الضغط النفسي على الأمهات. كما خسرت العاملات في هذا القطاع فرصهنّ، وتقول سوسن العبد الله، وهي خرّيجة كلية التربية، لـ"العربي الجديد": "كنا نتقاضى أجوراً متواضعة أصلاً، لكن على الأقل كان لدينا مصدر دخل. اليوم انقطع رزقي، وفرص العمل في التعليم قليلة ومحصورة غالباً في المدارس الحكومية، حيث الانتظار طويل والرواتب زهيدة". وعملت سوسن ثلاث سنوات في روضة خاصة بريف دمشق قبل أن تُغلق. ويمتدّ أثر الأزمة إلى المؤسسات الحكومية ذاتها، حيث يشير موظفون إلى أن غياب الغرف المخصّصة لرعاية الأطفال رفع من نسب الغياب بين النساء، وزاد من حالات الاستقالة أو طلب الإجازات الطويلة. وتؤكد شهيرة اليوسف، وهي موظفة في القطاع العام، أنها تفكر جدياً في ترك وظيفتها، وتقول: "بعد إغلاق الغرفة لم أعد أستطيع التوفيق بين عملي وأطفالي. أفكر في الاستقالة رغم حاجتي الماسّة إلى الراتب". وتبدو البدائل التي يطرحها الأهالي محدودة، إذ إن الجمعيات الخيرية لا تستطيع استيعاب الأعداد، والروضات الصغيرة التي تعمل بشكل غير نظامي معرّضة للإغلاق في أي لحظة، أو الاكتفاء بتعليم منزلي لا يلبّي احتياجات الأطفال النفسية والمعرفية. وفي ظل التدهور الاقتصادي، يصبح أي خيار مدفوع أشبه بترفٍ بعيد المنال. ويرى خبراء أن الخطة الحكومية تفتقر إلى مسار واضح لتأمين بدائل حقيقية، فإغلاق الروضات والغرف المؤقتة من دون توفير شبكة من المؤسسات المرخصة يترك فراغاً كبيراً تقع أعباؤه على الأسر، خصوصاً النساء العاملات. وتؤكد المتخصّصة في علم نفس الأطفال، أمينة الحاج، أن غياب الطفل عن الروضة في سن مبكرة قد يترك آثاراً طويلة الأمد على نموه الاجتماعي والمعرفي. وتقول لـ"العربي الجديد": "الروضة ليست مجرد مكان للّعب، إنما بيئة تعليمية واجتماعية تساعد الطفل على تعلم المهارات الأساسية، مثل التواصل مع الآخرين، مشاركة الألعاب، حلّ النزاعات البسيطة، تطوير الانتباه والتركيز. عندما يُحرم الطفل من هذه البيئة، قد يظهر لديه تأخر لغوي، ضعف في مهارات التكيف الاجتماعي، صعوبات في الانتقال لاحقاً إلى المدرسة الابتدائية". وتضيف الحاج أن التأثير يطاول كذلك نفسية الطفل، حيث إن "الانعزال المبكر عن أقرانه قد يسبّب شعوراً بالوحدة والاعتماد المفرط على الأهل، ما يضع ضغطاً إضافياً على الأسرة، ويجعل الطفل أقلّ استعداداً لمواجهة التحديات المستقبلية". وتشدّد على أنّ الحلول المؤقتة، مثل التعليم المنزلي أو الرعاية الفردية، قد لا تعوّض البيئة التفاعلية للروضة، مؤكدةً أهمية وجود شبكة من الروضات المرخصة والمجانية لضمان نمو الطفل في بيئة صحية متوازنة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية