
عربي
تحت أنقاض المنازل المدمرة، وفي ظل غياب شبه كامل لسبل الرعاية الصحية، تحمل مئات النساء الحوامل في ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي هماً مضاعفاً، فبينما تنمو أجنتهن في أحشائهن، ينمو خوف من مستقبل مجهول في مناطق لا تتوفر بها أبسط مقومات الحياة.
وباتت المستشفيات والمراكز الصحية التي كانت قريبة ومتاحة يوماً بعيدة المنال حالياً، إذ دمرت الكثير منها، أو توقفت عن العمل، ما يضع النساء أمام خيارات صعبة، فإما الولادة في المنازل من دون رعاية طبية، وإما التنقل لمسافات طويلة وخطيرة للحصول على الخدمات الصحية الأساسية، وهذا لا تهدد الأم وحدها، بل يهدد جنينها أيضاً.
تجلس أميمة الضاهر (32 سنة) الحامل في شهرها الثامن، أمام منزلها شبه المتهدم في قرية الشيخ مصطفى بريف إدلب الجنوبي، رغم آلام الظهر التي تعانيها، وتقول إنها عادت مع عائلتها إلى قريتها بعد سبع سنوات من النزوح في مخيمات الشمال السوري، وإنها تخشى أن يأتيها المخاض ليلاً ولا تجد من يساعدها، إذ لا يوجد مركز صحي، ولا سيارة إسعاف تقلها إلى المستشفى البعيد.
تضيف الضاهر: "وضعت طفلي الأول في خيمة النزوح بمساعدة جارتي العجوز، وكنت أخشى أن أموت بسبب النزيف، لكني اليوم قلقة أكثر لأن صحتي أضعف، والمراكز الطبية مفقودة، وحتى لا يوجد جيران، فأقرب منزل مأهول يبعد عنا نحو كيلو متر".
تضع فاطمة الشايب (25 سنة) يديها على بطنها التي تحتضن توءمين في شهرهما السادس، ليس على أن ذلك علامة على الحب فحسب، بل محاولة يائسة لتهدئة ركلاتهما التي لم تعد تبعث على الفرح، بل على الخوف من المستقبل. وتقول الشابة التي عادت إلى قريتها كفرنبودة في ريف حماه الشمالي لـ"العربي الجديد": "أحلم مثل أي أم بولادة آمنة أرى فيها صغيريّ بين ذراعي لأول مرة، لكن في هذا المكان يتحول الحلم إلى كابوس، فكلما نظرت إلى الخارج لا أرى سوى جدران متهدمة، وتطاردني ذكريات منزل كان قائماً. هذا الدمار يذكرني كل يوم بأن المستشفى بعيد، وأن سيارة الإسعاف قد لا تأتي".
وتضيف الشايب: "أبسط الحقوق أصبحت رفاهية، وكل حركة غير معتادة للتوءمين في بطني، وكل ألم بسيط يثير الذعر في نفسي، وينتابني الخوف من أن تأتي ساعة الولادة ولا أجد حولي سوى الجارات اللواتي يحاولن المساعدة بما يتوفر لديهن، بينما أنا وطفلاي على حافة الهاوية. العبء النفسي لا يقل قسوة عن الجسدي، والناس تظن أن كل ما نحتاج إليه هو الطعام والدواء. نعم نحتاج إليهما، لكن الأهم أننا نحتاج إلى الشعور بالأمان، ونحتاج إلى من يطمئننا بأننا وأجنتنا سنكون بخير".
هكذا تتحول فرحة استقبال مولود جديد إلى رهبة، وخشية من موت محتمل، بينما نداءات الاستغاثة تذهب أدراج الريح في منطقة يعتبر وجود طبيب أو عيادة فيها أمراً استثنائياً. وتقول طبيبة النسائية ياسمين الحسين، إن ما يعيشه الحوامل في ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشمالي نوع من المأساة الإنسانية، محذرة من تداعيات كارثية على صحة الأم والجنين بسبب الغياب شبه الكامل للخدمات الصحية.
وتوضح الحسين لـ"العربي الجديد": "أستقبل في عيادتي عشرات الحوامل، بعضهن في أشهر حمل متقدمة، ولم يخضعن لأي فحص طبي منذ بداية الحمل، إذ تفتقر مناطقهن إلى أجهزة السونار، وفحوص الدم، مع ندرة الأدوية الأساسية. الأخطر هو تردي أوضاع حالات الحمل عالي الخطورة، مثل المصابات بسكري الحمل، أو تسمم الحمل، واللواتي يحتجن إلى رعاية مستمرة ومتابعة دقيقة لا تتوفر هنا، والكثيرات من هؤلاء مضطرات إلى التنقل لمسافات طويلة، وتحمل تكاليف باهظة للوصول إلى مستشفى مجهز، فيما تعجز أخريات عن تحمل كلفة المواصلات".
وكشفت الطبيبة السورية عن تسجيلها حالات إجهاض متعددة، إضافة إلى حالات موت للأجنة داخل الرحم، بينما كان من الممكن تفاديها لو توفرت الرعاية الطبية الأساسية، والمتابعة الدورية للحوامل. مشيرة إلى حالة سيدة في العقد الثالث من عمرها، تعرضت للإجهاض بعد عجزها عن تأمين كلفة نقلها إلى المستشفى لتلقي العلاج اللازم لمضاعفات الحمل، وحالة سيدة أخرى فقدت جنينها بعد معاناة مع تسمم الحمل الذي لم يتم تشخيصه إلا في مرحلة متأخرة بسبب انعدام الفحوص الدورية.
وخلصت الحسين إلى أن "الوضع الصحي للحوامل في تلك المناطق يتجه من سيئ إلى أسوأ في ظل غياب الدعم، وندرة الكوادر الطبية المتخصصة، وعلى المنظمات الإنسانية توفير دعم عاجل لإنشاء عيادات طبية متخصصة في رعاية الحوامل، وتوفير الأدوية اللازمة للولادة، وإطلاق حملات توعية حول صحة الحوامل في ظل تلك الظروف الصعبة".
