
عربي
لا تزال مدينة الفاشر السودانية محاصرة منذ ما يزيد على عام ونصف العام، وتقلصت أخيراً كميات المواد الغذائية والأدوية مع تصاعد القتال.
يعيش سكان مدينة الفاشر، كبرى مدن إقليم دارفور في السودان، وعاصمة ولاية شمال دارفور، أوضاعاً بالغة الخطورة بعدما أخذت المعارك منحى عنيفاً مع توغل قوات الدعم السريع داخل الأحياء السكنية مستخدمة مختلف الأسلحة، بما فيها القصف المدفعي والطائرات المُسيرة، بينما تفاقمت احتياجاتهم الإنسانية نتيجة نفاد المواد الغذائية والأدوية المنقذة للحياة.
وعلى وقع القصف المُستمر، وتراجع المساحات الآمنة، وانتشار القناصة الذين يستهدفون حركة الناس، تفشى الجوع بين آلاف المحاصرين في الأحياء السكنية. تقول منى جبريل، وهي أم لخمسة أطفال، لـ"العربي الجديد": "القنابل والدانات تتساقط علينا يومياً، وفي كل يوم يموت العشرات، سواء بالقصف أو الجوع أو الأمراض. المواد الغذائية الشحيحة التي تصل إلى المدينة أسعارها خيالية، والأدوية نفدت نهائياً، والمتوفر منها يمنح للمقاتلين، ولا نستطيع مغادرة المدينة لأن المسلحين يقتلون الرجال أو يعتقلونهم ويعرضون النساء لانتهاكات فادحة على الطرق، كما يستولون على الأمتعة والأغراض الشخصية".
تضيف جبريل: "نحن معرضون للخطر في كل الأحوال، فلو حاولنا المغادرة لن يتركونا نذهب بسلامة، ولو بقينا فنحن معرضون للموت جوعاً. وصل سعر كيلوغرام الدقيق إلى 360 ألف جنيه (الدولار يساوي 2700 جنيه سوداني)، وسعر نصف لتر الزيت 140 ألفاً، واحتياجات أسرة صغيرة في اليوم الواحد تبلغ نحو مليون جنيه، وكثيرون يصابون بالأمراض المعوية والملاريا، ومات الكثير من أصحاب الأمراض المُزمنة، مثل السكري والضغط، نتيجة نفاد الأدوية، والمستشفيات مغلقة، والقصف لا يفرق بين المنازل والمقار العسكرية".
بدورها، تقول النازحة فاطمة إزيرق إنها جاءت إلى الفاشر من مخيم أبوشوك الذي سيطر الدعم السريع على أجزاء واسعة منه، وإنه عند وصولها كانت المطابخ الجماعية توفر لعائلتها وجبة يومياً، لكن المطابخ توقفت بعد نفاد المواد الغذائية، كما تخلو المتاجر والمنازل من حفنة عدس أو طحين أو ذرة. تضيف، متحدثة لـ"العربي الجديد": "الأطفال وكبار السن يموتون يومياً، بعضهم يموت من الجوع، وبعضهم من الأمراض، ومن ينجو من الجوع والمرض يقتل بالدانات أو الرصاص الطائش، والمُسيرات والطائرات العسكرية تمطر المدينة بالقذائف ليل نهار".
ماشتداد المعارك، بدأ سكان الفاشر حفر أنفاق أصبحت ملاذاً للنجاة، واستبدل البعض مساكنهم بتلك الأنفاق التي تم حفرها داخل المنازل وداخل المباني الحكومية
ومع تقلص مساحة المدينة نتيجة تقدم قوات الدعم السريع واشتداد المعارك، بدأ السكان حفر الأنفاق التي أصبحت ملاذاً للنجاة، واستبدل البعض مساكنهم بتلك الأنفاق التي تم حفرها داخل المنازل وداخل المباني الحكومية. يقول آدم صغيرون (75 سنة)، لـ"العربي الجديد": "المنازل لا تحمينا من دانات المدافع وقصف الطائرات المسيرة، لذا لجأ الناس إلى حفر أنفاق بعمق عدة أمتار داخل الأرض، يهرعون إليها فور سماعهم دوي القصف أو أصوات الاشتباكات".
يضيف صغيرون: "قلة من الناس في الفاشر يحصلون على وجبة طعام بين الحين والآخر، والبقية يعتمدون على الأمباز (علف الحيوانات)، في طعامهم، والجميع معرضون للموت في المعارك اليومية، إذ نقتل بدم بارد من الطرفين. لا توجد مناطق آمنة في المساحة المُتبقية من المدينة، فكلها أصبحت تحت القصف، ولهذا لجأ السكان إلى حفر الأنفاق، ورغم صعوبة البقاء فيها لفترات طويلة لصعوبة التهوية وارتفاع درجات الحرارة، لكنها خيار لا بديل عنه في ظل الوضع الراهن".
ويكلف حفر النفق الذي يسع 25 شخصاً حوالي تسعمائة ألف جنيه (حوالى 400 دولار)، وهو مبلغ يفوق قدرة السكان حسبما يقول عبد الله خاطر، وهو معلم سابق، لـ"العربي الجديد". ويشرح خاطر بقوله: "النفق العميق تحت الأرض يمثل الملجأ المناسب من القصف والذخائر الطائشة، لكنه يكلف أموالاً طائلة وهي غير متوفرة لدى السكان في الفاشر".
وخلق عدم توفر مياه الشرب معضلة إضافية في الفاشر، وبعد توقف محطات توزيع المياه، بدأ السكان الاعتماد على مياه الأمطار التي يتم جمعها. وتقول مروة عبد الكريم (57 سنة)، النازحة من مخيم زمزم، لـ"العربي الجديد": "توقفت محطات المياه في المدينة لأنه لا يوجد وقود لتشغيلها، ولا يوجد عمال للإشراف عليها، وصار الحصول على مياه شرب نقية ترف تجاوزه الناس إلى البحث عن لقمة الطعام وجرعة الدواء. أمراض سوء التغذية تهدد الجميع، فالناس لا يجدون طعاماً يسد رمقهم".
وفي 28 سبتمبر/ أيلول الماضي، كشفت غرفة طوارئ معسكر أبوشوك (أهلية)، أن أكثر من 95 شخصاً لقوا حتفهم في غضون أربعين يوماً بسبب الجوع، من بينهم 73 طفلاً، موضحة أن الأوضاع الأمنية والإنسانية تسير نحو المزيد من التعقيد مع انعدام الخدمات الأساسية في الفاشر.
من جانبها، قالت شبكة أطباء السودان إنها سجلت وفاة 23 شخصاً، من بينهم خمس نساء حوامل، خلال شهر سبتمبر الماضي، وإن "ما يحدث في الفاشر يُعد جريمة ممنهجة تستهدف حرمان المواطنين من المساعدات الإنسانية".
وكان آلاف السكان يحصلون على طعامهم عبر المطابخ الجماعية التي تديرها غرف الطوارئ في المدينة، لكنها توقفت لعدم وجود مواد غذائية. ويقول عضو غرفة طوارئ الفاشر هارون أبكر لـ"العربي الجديد": "كانت المطابخ تقدم وجبات يومية للسكان الجوعى، لكننا لم نعد نستطيع شراء المواد الغذائية من داخل المدينة، حيث لا توجد أسواق أو متاجر توفر الطحين أو الأرز، فجميعها نفدت".
ويضيف أبكر: "بعد نفاد السلع في أسواق المدينة، كنا نذبح الخراف في التكايا لتوزيع اللحوم المطبوخة، لكنها أيضاً أصبحت غير متوفرة. لن يستطيع السكان الاستمرار على هذه الحال لفترة طويلة، والجوع والأمراض المنتشرة سيقضيان على الكثير منهم، خاصة الأطفال وكبار السن، وينبغي التدخل في أسرع وقت لإيصال المواد الغذائية إلى هؤلاء المحاصرين من دون أن يكونوا طرفاً في الحرب".
وفي 29 سبتمبر الماضي، حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، من أن الوضع الإنساني في الفاشر يزداد سوءاً يوماً تلو الآخر مع اشتداد الحصار المفروض على المدينة، وأن صور الأقمار الصناعية أظهرت تقلص مساحة المدينة المأهولة، بينما تنتشر السواتر الترابية حولها، ما يُحجّم حركة الدخول والخروج.
وتقول وزيرة الصحة بولاية شمال دارفور خديجة موسى، وهي من ضمن المحاصرين في مدينة الفاشر، لـ"العربي الجديد": "بعد نفاد المواد الغذائية، أصبح السكان يلجأون لأكل مواد غير صالحة للإنسان، ما يتسبب في مشاكل صحية خطيرة، أقلها الإسهالات، والجوع متفش بصورة لافتة بين الناس، والإصابات اليومية بالقصف تحصد الأرواح، ورغم أن ثلاثة مستشفيات ما زالت تعمل بالمدينة، لكنها لا تستوعب كل الحالات المرضية والإصابات التي ترد إليها على مدار الساعة".
