
أقف حائراً، بل مذهولاً أحياناً، مما أراه يتكرر في وسائل التواصل الاجتماعي: مقاطع مرئية ومنشورات من بعض العرب، ممن يسمّون أنفسهم “الخليجيين”. منهم من يتحدث عن اليمنيين باحتقار وانتقاص، فيكشف بذلك عن سطحية تربيته وضحالة إنسانيته. ومنهم من يتحدث بإعجابٍ مشوبٍ بالاستعلاء: “انظروا كيف صنع اليمني هذا، اسمعوا عن شهامة ذاك، تأملوا في كرم آخر!” وكأن اليمني تحوّل إلى قصة طريفة تُروى، أو مشهدٍ يُصفّق له الآخرون، بينما نحن الأصل والتاريخ والعمق.
المؤلم أكثر أن ترى بعض اليمنيين يلهثون وراء هذه المقاطع، ينشرونها ويتباهون بها، وكأنها وسام شرف! وهم لا يدركون أن ذلك في جوهره انتقاص، لأنك حين تنتظر الآخر كي يعرّفك على نفسك، فإنك تعترف ضمناً بأنك صرت أطلالاً لا تُرى إلا في مرآة غيرك.
لكن، من المسؤول عن إيصالنا إلى هذا الحال المزري؟
ليست شعوب الجزيرة، ولا مقاطع الفيديو، ولا حتى أصوات السخرية من هنا وهناك. بل المسؤول الأول هم حكامنا، قديماً وحديثاً. من عهد الأئمة الزيدية الذين أفرغوا اليمن من هويتها وحولوها إلى قطيعٍ مطيع، حتى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر التي أشعلت نوراً عظيماً، لكنه سرعان ما خبا مع حكم علي عبد الله صالح الذي أعاد البلاد إلى الظلام، وطفأ شعلة التحرر، ومهّد الطريق لابتلاء هذا الوطن بمغول العصر: الحوثيين.
اليمن ليس مجرد جغرافيا منكوبة أو وطن يتسوّل الاعتراف من جيرانه. اليمن تاريخ، حضارة، وأصلٌ لا يمكن أن يُمحى.
يكفي أن نعود إلى النقوش المسندية التي تحدثت عن ممالك سبأ وحمير وقتبان ومعين وحضرموت، لندرك أننا لم نكن يوماً مجرد تابعين، بل كنا صانعي الحضارة في جنوب الجزيرة.
ابن خلدون، في مقدمته، يذكر أن العرب العاربة أصلهم من اليمن، وأن القبائل العدنانية والقحطانية تفرعت من هذه الأرض. والمسعودي في “مروج الذهب” يصف اليمنيين بأنهم “أهل حضارة وعمران”، ويذكر كيف كانت قوافلهم تسيطر على طرق التجارة بين الهند والشام.
يوم كانت الجزيرة العربية كلها أرضاً قاحلة، وأهلها يتنقلون وراء قطعانهم، كان اليمن يبني السدود، أعظمها سد مأرب الذي وصفه القرآن في سورة سبأ، وكان يصدر البخور واللبان إلى معابد الرومان، ويرسل القوافل إلى الشام، ويؤمّن طرق التجارة، فيما كان أولئك الأعراب يقتاتون على ما تجلبه القوافل من خير اليمن. بعضهم كان يعمل جنوداً مرتزقة في خدمة الممالك اليمنية، يتقاضون معاشاتهم وهباتهم من خزائن صنعاء ومأرب وظفار.
فليعلم هؤلاء الذين يفاخرون اليوم بدويلاتهم النفطية، أن دويلاتهم لم تكن سوى بذورٍ سقطت من شجرة اليمن الكبرى. أصلهم من هنا، وجذورهم ضاربة في هذه الأرض، وإن أنكروا ذلك ألف مرة.
ولست هنا في مقام استعلاء، بل في مقام تذكير: تذكير لهم ولنا أن اليمن، رغم كل ما عاناه، يظل هو الأصل، والجذر، والحضارة، والبوصلة. وأن ما نعيشه اليوم ليس قدراً أبدياً، بل محطة عابرة صنعها طغاة الداخل وتحالفات الخارج.
نحن لسنا في حاجة إلى شهادة من أحد تثبت كرمنا أو شهامتنا أو شجاعتنا. هذه صفات تجذرت فينا منذ سبأ وحمير، ولن يمحوها لا إعلامٌ سطحي ولا مقاطع رخيصة. ما نحتاجه فقط هو أن نصحو نحن، أن نستعيد وعينا، أن نكسر القيد الذي صنعه حكامنا وورّثوه لأبنائهم، وأن نعود كما كنا: منارةً تهدي لا تابعاً ينتظر شهادة.
أما الآخرون، فليقرأوا التاريخ قبل أن يتطاولوا، وليتذكروا أن جذورهم من شجرة اليمن، وأن كل ما بنوه اليوم ما كان ليكون لولا أن اليمن أضاء لهم طريق البدايات.
اليمن لا يختزل في مقطع فيديو، ولا في تغريدة، ولا في مديح عابر. اليمن هو التاريخ الذي إن محوتموه، محوتم أنفسكم معه.
The post اليمن.. أصلٌ يرفض أن يُختزل في مقطع فيديو appeared first on يمن مونيتور.