
تشكل الحكايات الشعبية والأساطير اليمنية ركيزة أصيلة في الهوية الثقافية، ومرآةً تعكس الموروث الشعبي الغني المتنوع عبر أجيال طويلة، إلا أن هذا الكنز الشفهي بات اليوم مهدداً بالاندثار، ما لم يُبادر إلى حفظه وتوثيقه.
وللحكايات الشعبية في اليمن عدة تسميات باختلاف المناطق، وتقول الباحثة في التراث الثقافي اليمني، هناء الحارثي، إنها تسمى في حضرموت “محاري”، وفي إب “سمعة”، وفي تعز “حزوة”، وفي صنعاء “درويش”، وفي مناطق أخرى “خبازير”، وتستهل الجدات قصصهن بعبارات مثل: “حاز بحزويتك كذا وكذا”، أو “تحلو بماركم بقصة”.
المؤرخ والأديب مطهر الإرياني يعرف الحكاية الشعبية بأنها “القصصية الشعبية التي تُروى للأطفال”، فيما يلخص الشاعر عبد الله البردوني وظيفتها بأنها “وسيلة قصصية تحمل خلاصة التجارب الإنسانية، وتعكس هوية الشعب وتاريخه”.
نافذة تطل على الماضي
الحكاية الشعبية اليمنية ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل نافذة عميقة يطل منها الإنسان اليمني على ماضيه، معتقداته، وأسلوب حياته. إنها مرآة تعكس القيم، وتحفظ الموروث، وتربط الأجيال بجذورها في ظل زحف الحداثة ووسائل الترفيه الرقمية.
مواضيع مقترحة
-
إحياء التراث الشعبي.. العودة للجذور اليمنية
-
حصون وقلاع شبوة: إرث الأجداد وعبقرية التاريخ
-
الألعاب الشعبية.. هوية وتُراث تهددها التكنولوجيا
ويؤكد رفيق العكوري -خبير التراث الثقافي غير المادي- أن الحكاية الشعبية في اليمن تمثل جزءًا أصيلًا من التراث اللامادي، حيث أبدعها الإنسان اليمني ليجسد بها تفاصيل حياته اليومية، وهمومه، وآماله.
ورغم تنوع اللهجات واختلاف البيئات الجغرافية، فإن الحكايات الشعبية في اليمن تتقاطع في كثير من محاورها، مع اختلافات بسيطة في اللهجة أو أسلوب السرد، لكن الرمزية فيها تظل واحدة، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
الحكاية الشعبية اليمنية ليست مجرد وسيلة للترفيه، إنها مرآة تعكس القيم، وتحفظ الموروث، وتربط الأجيال بجذورها في ظل زحف الحداثة ووسائل الترفيه الرقمية
وتشير الحارثي خلال حديثها لمنصة ريف اليمن، إلى أن الحكايات والأساطير اليمنية غنية ومتنوعة، تعكس التاريخ العميق والتراكم الثقافي، حيث أنتجت البيئة الجغرافية المتعددة في اليمن (جبال، سواحل، صحارى، سهول) أنماطًا حكاياتية مختلفة، فالجبال قصصها عن الشجاعة والمقاومة، والسواحل أساطير بحرية ومخلوقات خرافية، بينما الصحارى حكايات عن التيه والصراع من أجل البقاء.
كما لعبت المكونات القبلية والتأثيرات الخارجية (من الثقافات الهندية والفارسية والحبشية والعربية الإسلامية) دورًا كبيرًا في تشكيل الأساطير، التي كانت تُستخدم في التربية، أو الترفيه، أو ترسيخ القيم.
الحكايات، كما توضح الحارثي، أثّرت على جلسات السمر، المقيل، الأمثال، الحكم الشعبية، والأغاني، بل وألهمت كتابًا وشعراء كبار مثل عبد الله البردوني وزيد مطيع دماج. كما أصبحت الحكاية جزءًا من الذاكرة الوطنية في ظل غياب التدوين لقرون طويلة.
وظائف مجتمعية
الباحث رفيق العكوري قال لمنصة ريف اليمن إن الحكاية الشعبية اليمنية لم تكن مجرد وسيلة للتسلية، بل أدّت وظائف مجتمعية متعددة، أبرزها نقل العادات والتقاليد، وغرس القيم الأخلاقية كالشجاعة، الكرم، والعمل الجماعي، إضافة إلى الحفاظ على اللهجات المحلية، من خلال تداول القصص بلغات البيئة الأصلية.
ويستشهد العكوري بعدد من الحكايات التي تجسد هذه الوظائف، مثل سيف بن يزن، والملكة بلقيس، والطاهش، وبائعة اللبن، وغيرها من القصص التي شكلت ذاكرة ثقافية جمعية.
كما يلفت إلى أن المرأة اليمنية، وبشكل خاص الجدّات، لعبت دورًا محوريًا في الحفاظ على هذا الإرث، إذ كانت “حكايات الجدات” تقليدًا يوميًا في البيوت اليمنية، تُروى للأطفال قبل النوم، وتُنقل من الأم إلى الابنة، بما يضمن استمرارية السرد الشفهي عبر الأجيال.
ويؤكد العكوري على أن المرأة كانت ولا تزال الحارسة الأمينة للتراث القصصي الشعبي، بفضل دورها المتجذر في نقل الحكاية وصونها من النسيان.
رغم ثراء الحكايات الشعبية اليمنية وتنوعها، إلا أنها تواجه خطر الزوال، نتيجة تغيّرات متسارعة في نمط الحياة والثقافة ويزيد غياب التوثيق الرسمي من حدة هذا التهديد
مخاطر الإندثار
رغم ثراء الحكايات الشعبية اليمنية وتنوعها، إلا أنها اليوم تواجه خطر الزوال، نتيجة تغيّرات متسارعة في نمط الحياة والثقافة ويحذر الباحث في التراث الثقافي رفيق العكوري من أن هذا الموروث الشفهي مهدد بالاندثار بسبب مجموعة من العوامل، أبرزها هيمنة وسائل الترفيه الحديثة، وانتشار القصص المكتوبة، ومنصات المحتوى الرقمي التي طغت على المجالس التقليدية وطقوس السرد الشعبي.
ويضيف العكوري أن غياب التوثيق المؤسسي الرسمي يزيد من حدة هذا التهديد، رغم محاولات فردية ومبادرات فنية لتوثيق الحكاية الشعبية، فقد عمد بعض الفنانين والمبدعين إلى توظيف الحكايات التراثية في أعمال معاصرة مثل مسلسل وضاح اليمن وسيف بن يزن، وكذلك في عروض مسرحية للدمى مثل مغرس الشمع، أو حتى في لوحات تشكيلية مثل وريقة الحنا، وأغانٍ تحاكي الذاكرة الشعبية مثل طاهش الحوبان والدودحية.
وفي السياق ذاته، ترى الباحثة هناء الحارثي أن الخطر يتفاقم في ظل استمرار اعتماد النقل الشفهي دون توثيق مكتوب، وتراجع دور “الراوي الشعبي” الذي كان يشكل عماد السرد المجتمعي في القرى والمجالس.
وتلفت إلى أن النظرة الدونية التي يواجهها هذا النوع من التراث، إضافة إلى تأثير النزوح والحروب، قد ساهمت في تغييب السياقات التي كانت تُروى فيها الحكايات. كما أن سيطرة ثقافة الإنترنت والخيال الرقمي المستورد أدت إلى تفكك الرابط بين الجيل الجديد وموروثه الشعبي المحلي، ما يشكل تهديدًا حقيقيًا بفقدان ذاكرة سردية غنية تعكس هوية اليمنيين وقيمهم.
مقترحات وحلول
في ظل التهديد المتزايد باندثار الحكايات الشعبية، تطرح الباحثة في التراث الثقافي اليمني هناء الحارثي سلسلة من الحلول العملية للحفاظ على هذا الإرث الشفهي. وترى الحارثي أن الخطوة الأولى تبدأ بالتوثيق الممنهج، سواء عبر التسجيل الصوتي أو الكتابي، وخاصة من أفواه كبار السن الذين لا يزالون يحتفظون بذاكرة سردية غنية.
دعوات لتحويل الحكايات لأعمال درامية، رسوم متحركة، أو قصص للأطفال، بما يواكب العصر ويجذب جمهوراً أوسع، إلى جانب إقامة مهرجانات تراثية تُعرض فيها هذه الحكايات
وتدعو الحارثي إلى تشجيع الباحثين والطلاب على جمع القصص المحلية وتوثيقها من بيئاتهم، وربطها بالسياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه. كما تشدد على أهمية دمج الحكايات الشعبية في المناهج الدراسية، بما يسهم في ترسيخ الهوية الثقافية لدى الأجيال الناشئة، ويعيد إحياء هذا الفن في بيئة تعليمية مدروسة.
ومن بين المقترحات العملية، تحويل الحكايات إلى أعمال درامية، رسوم متحركة، أو قصص للأطفال، بما يواكب العصر ويجذب جمهوراً أوسع، إلى جانب إقامة مهرجانات تراثية تُعرض فيها هذه الحكايات، وتخصيص أقسام دائمة لها في المتاحف والمراكز الثقافية.
وتؤكد الحارثي أن الحكايات الشعبية ليست مجرد أداة للترفيه، بل هي كنز إنساني يعبّر عن حكمة اليمنيين وتجربتهم العميقة مع الحياة. وتختم قائلة “الحل يبدأ بالتوثيق، والتعليم، والتجديد… قبل أن تذوب هذه القصص في صمت النسيان”
The post الحكايات الشعبية.. ذاكرة اليمن الشفوية بلا توثيق first appeared on ريف اليمن.