
كلّ كلام يقوله مقاتل مليشياوي لبناني وغير لبناني، عن الحرب الأهلية اللبنانية وعلاقته بها، مطلوبٌ، إذْ يُفترض باللاحق على النهاية المزعومة لتلك الحرب أنْ تؤسِّس سلماً أهلياً صلباً ومتيناً، لا شكّ في أنّ اعترافات مقاتلين ومقاتلات (لبنانيين وغير لبنانيين مُشاركين في تلك الحرب) تُشكِّل خطوة مهمّة، بل أساسية، لتمتين الذاكرة من كلّ نسيان.
لكنْ، أيكون كلّ كلام وأيّ كلام مُفيداً إلى هذا الحدّ؟ ألنْ تتشابه الاعترافات، في عناوينها العامة على الأقلّ، والتشابه يعني توافقاً بين أعداء الأمس على أنّ هناك شيئاً عفناً حاصلٌ، وأنّ لهم/لهنّ مسؤولية صُنعه؟ أينفع الاعتراف إنْ يبقى كلاماً يُقال أمام شاشة، أو يُكتب في كتابٍ؟ إلى أيّ مدى يكون الاعتراف صادقاً (إنّه نابعٌ من تجربة فردية لا أكثر)، وهذا بحدّ ذاته مطلوبٌ وضروريّ، رغم أنْ لا علاقة له بتأريخ حربٍ أو توثيقها علمياً؟
تساؤلات كهذه تنبثق من مشاهدة "اعترافات من الحرب" (40 دقيقة، 2024) لشان ديفيد تومبسون وليون شاهابيان، الذي يفتتح، مساء اليوم، الدورة الثامنة (27 ـ 30 يونيو/حزيران 2025) لـ"كرامة بيروت ـ مهرجان أفلام حقوق الإنسان". اختيار فيلمٍ غربيّ، يوثِّق اعترافات مقاتلين ومقاتلات مليشياويين، للافتتاح، متأتٍ من احتفاءٍ متواضع بالذكرى الـ50 لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 إبريل/نيسان 1975)، وتسمية الدورة تلك بـ"تذكّر". تساؤلات تُرافق كلّ فيلمٍ وكلّ كتاب يتضمّنان اعترافات كهذه.
الفيلم، المُنتج "جزئياً" بفضل "الدعم السخي من الشعب الأميركي، عبر وزارة الخارجية الأميركية" (طبعاً، لا بُدّ من التأكيد على أنّ ما يُقال يتحمّل قائله مسؤوليته، والجهات الأميركية وغير الأميركية غير مسؤولة عنه)، مكتفٍ بتصوير مقاتلين ومقاتلات وشابّة ومدنيّة معنية بملف المخطوفين والمفقودين (وداد حلواني) وهم/هنّ يروون حكاياتهم الخاصة، ووقائع انخراطهم في الحرب، والخلاصات المستخلصة من اللاحق على نهايتها المزعومة (13 أكتوبر/تشرين الأول 1990). فالمساحة الأكبر معقودة على تسجيلات بصرية زمن الحرب، بينما يبدو بعض الكلام (في نسخة مُشاهَدة قبل عرض الافتتاح) مقطوع، لعلّ التوليف (تومبسون) المرتبك سببه.
لا سينما إطلاقاً في فيلمٍ، غير مُقدِّمٍ أي جديدٍ ومختلف عمّا يتداوله موافقون وموافقات على بوحٍ كهذا، والبعض جالسٌ أمام كاميرا (فريق التصوير: إلسي حجار وكريم غريّب وبشار خطّار ونبيل عسّاف) شريطٍ يُفضَّل وصفه بالتلفزيوني. لو أنّ في البوح جديداً ومختلفاً، لتمّ التغاضي عن شكله ونوعه، ولأمَكن متابعته (من دون ملل!) بهدف اكتشاف غير المعروف. سيُقال إنّ هناك غير عارف وغير متابع، ما يجعل الفيلم ضرورياً. لكنْ، طالما أنّ هناك غير عارف وغير متابع، فهل سيُشاهد شريطاً كهذا ليستمع إلى بوح عن حربٍ "منتهية" منذ 35 عاماً، إنْ يكن غير مكترثٍ بالذاكرة والتذكّر في الفترة السابقة كلّها؟
إضافة إلى ذلك، لا تُذكر أسماء الشخصيات المختارة، أقلّه عند ظهورها للمرّة الأولى. هذا يطرح تساؤلاً عن سبب اختيارها، وعن دورها في تلك الحرب، بناءً على اختبارات فردية. أمْ أنّ إشارةً، مكتوبة في البداية (من أصل مئات آلاف المقاتلين الأحياء، قلّة ترغب في التحدّث عنها)، كافيةٌ لتبرير الاختيار؟ أمّا المعلومات الواردة في بداية الـ"اعترافات"، المتعلّقة بالبلد قبل حربه وبعدها، فتؤكّد أنّ المُشَاهَد تحقيق تلفزيوني. لعلّ مُشاهِد ـ مُشاهِدة أجنبي ـ عربي مُكترثٌ يحتاج إلى هذا كلّه، إنْ يكن هناك مُشاهِد ـ مشاهِدة لهذا النوع من الريبورتاجات البصرية.
الأهمّ من الكلام والبوح كامنٌ في مكانٍ آخر، يتغاضى عنه تومبسون وشاهابيان، رغم مرور عابرٍ عليه، غير واضحةٍ معالمه: ما يفعله بعض هؤلاء في زمنٍ، يُفترض به أنْ يكون سلاماً، ينتقده مقاتلون ومقاتلات لتغييب الأسس البديهية والجوهرية التي يُمكنها ربما الحؤول دون اندلاع حرب أهلية أخرى، يرى بعض هؤلاء ملامح لها راهناً. فأسعد شفتري (المسؤول السابق في جهاز الأمن القومي في القوات اللبنانية) وزياد صعب (الشيوعي)، مثلاً، يعملان حالياً، عبر "محاربون من أجل السلام"، على إثارة وعي، أقلّه فردي، إزاء الحرب والسلام معاً. أي أنّ ما يمتلكانه من اختبارات ميدانية، مع تراكم معرفي وتبدّلات فكرية وثقافية وحسّية، يوظَّف في فعلٍ مطلوبٍ، يجب على مؤسّسات رسمية (وغير رسمية) أنْ تفعله، احتراماً لضحايا الحرب (قتلى، جرحى، مفقودون، مُصابون بأعطاب نفسية، إلخ).
الدفاع عن الذات والأهل والبيئة دافعٌ إلى الانخراط العسكري في حربٍ، تكتشف شخصيات "اعترافات من الحرب" فظائع أفعالها فيها لاحقاً (والأفعال مُبرَّرة أصلاً). هذه حربٌ، وفي الحرب قتلٌ، وجانبٌ "إنسانيّ" يقبله البعض ويتصرّف وفقاً له وإنْ في لحظات نادرة، مقابل من يُصرّ على أنّه (الجانب) غير موجود زمن الاقتتال والمواجهات. يُطرح سؤال: "كم شخصا قتلت؟". بعد ثوان من الصمت، يُجمع هؤلاء على عدم المعرفة بدقّة، والأمر مرتبطٌ بالقصف وإطلاق الرصاص. أمّا "مباشرة"، فربما شخصين أو ثلاثة (شفتري). لكنْ، أما من مشارك بينهم/بينهنّ في مجزرة (مباشرة أو غير مباشرة)، والمجازر كثيرة؟ ربما.
واضحٌ أنّ "تذكّر" يتوقّف عند التذكير العام بفظائع حربٍ، لن تُروى (الفظائع والحرب معاً) كاملةً وبدقّة، خاصة بالنسبة إلى مسؤولين أمنيين/استخباراتيين، "يعتذرون" سابقاً بكلامٍ عامٍ، ويتجنّبون فتح ملفات، بحجّة التهديد المباشر لهم من رفاق السلاح أولاً. أتتذكّرون "ليال بلا نوم" (2012) للّبنانية إليان الراهب؟
