
ربما كانت كل كتابة ذاتية، مهما بدت صادقة، في النهاية نوعاً من الهروب؛ لا من الواقع فقط، بل من هشاشتنا أمامه. فالصدق الأدبي لا يعني التطابق مع الحقيقة، بل القدرة على تمثيل الجرح الداخلي بلغة تصمد على الورق. ولعلنا نكتب أنفسنا لا لنُفهَم، بل لنُحتَمل.
السيرة الذاتية الروائية، أو ما يُعرف بالـ Autofiction، ليست مستنداً واقعياً ولا شهادة موثقة، بقدر ما هي تركيب معقّد من الذاتي والمتخيل، الحقيقي والوهمي، البوح والتمويه. وغالباً ما يُخطئ القارئ حين يطالب هذا النوع من الأدب بأن يكون صادقاً أو مطابقاً للواقع. فالسيرة الذاتية الروائية ليست دفتر أحوال، بل نصٌّ مفتوح على التأويل. كما أن الكاتب ذاته قد لا يعرف أين تبدأ الحقيقة وتنتهي الصياغة.
بهذا المعنى، حين يروي الكاتب ذاته، لا يفعل ذلك بدافع التوثيق، بل بدافع الصياغة. تتحول الذات إلى شخصية سردية، إلى "أنا" معرّضة للتشظي، وإلى ضمير خفيّ يتخفى بين السطور. فالذكرى نفسها، عند كثير من الكُتّاب، ليست ثابتة أو يقينية، بل هي نتاج تراكمي من الصور والمشاعر والقراءات.
تركيب معقّد من الذاتي والمتخيل، والحقيقي والوهمي
من هنا يمكن فهم نموذج فاطمة قنديل في روايتها "أقفاص فارغة"، حيث تطرح كتابة تصفها هي بـ"سيرة ذاتية"، لكنها تُدخل فيها عناصر خيالية "لترقع ما نقص من معلومات". هذا البوح ليس فقط استعادة للذاكرة، بل إعادة تشكيل فسيفساء من زمن غابر. تقول: "أي هذه السطور كان حدثاً حقيقياً، وأيها كان صدى لتجربة، أو وهماً راودني؟". ومع ذلك، تُصر على أن "النواة الصلبة لهذه الأحداث وقعت بالفعل، وتحولت إلى مكون أساس في وعيي". كما كتبت بوضوح: "لم أستطع أن أكتب عنهم إلا بعد أن ماتوا، في الواقع أو في قلبي".
فالبوح ليس بطولة، بل عبور موجع لعتبة الخوف. الكاتب الذي يسلّم مفاتيح جروحه للغرباء لا ينام مرتاحاً. يتظاهر بالقوة، لكنّه يرتجف وهو يكتب عن الأب السكير، أو عن أنانية الأخ، بينما يصلّي ألّا يعرفوا أنفسهم في النص. لأنه، رغم كل شيء، يحبّهم. ويخونهم قليلاً. بهذا الشكل، تتحوّل السيرة إلى كتابة لا تسعى إلى تأريخ الواقع، بل إلى ترميم الذكرى، وإعادة امتلاك الذات من خلال الخيال.
أما في حالة محمد شكري، فنحن أمام نموذج مغاير تماماً للبوح، أكثر جذرية ومباشرة. في "الخبز الحافي"، لا نجد أي محاولة للتجميل أو التلطيف، بل مواجهة صريحة لأقسى ما يمكن أن يُقال. شكري لا يطلب تعاطفاً، ولا يبرر اختياراته، بل يضعنا في قلب الجوع، والفقر، والاضطهاد الجنسي. إنه يقاوم التاريخ الرسمي بكتابة تحوّل الجسد إلى نص، والحرمان إلى مرآة للهوية المعذبة. كتب شكري سيرة تبدأ من العراء وتنتهي في عراء آخر. لكنه عراء يجعل الأدب ممكناً.
سيرة لا تسعى إلى تأريخ الواقع، بل إلى ترميم الذكرى
وفي منحىً آخر، يختلف من حيث زاوية النظر والأسلوب، تقف آني إرنو. في "السنوات"، تفكك إرنو ذاتها من خلال عدسة الجماعة، لا تستعرض تجربتها الشخصية بوصفها حالة استثنائية، بل عينة من تحوّلات المجتمع الفرنسي. تكتب بضمير الغائب، بمسافة عقلانية، وبأسلوب بسيط لكنه نافذ. تقول: "الكتابة التي لا تكون سياسية لا معنى لها"، وتقصد بذلك أن الذات لا تنفصل عن سياقاتها الطبقية والاجتماعية. في نصوصها، تذوب "الأنا" في "نحن"، ويتحول البوح إلى تقويم لذاكرة جماعية، لا إلى اعتراف فردي.
لكن إن انتقلنا إلى ألبير كامو، وتحديداً إلى روايته "الغريب"، فسنجد نوعاً مختلفاً من البوح، بوحاً بالصمت واللامبالاة. لا نجد اعترافاً بالمعنى المباشر، بل رفضاً ضمنياً لكل صيغة تقليدية للبوح. ميرسو لا يتوسل التعاطف، بل يعيش في لامبالاة جذرية. يقتل من دون سبب، ويواجه محاكمته بصمت. هذا الشكل من الكتابة يقدّم ذاتاً منفصلة عن العالم، تبوح بلا كلام، وتعترف بلا اعتراف. إنها سيرة الضياع لا الهوية، ووثيقة عن العبث أكثر مما هي كشف عن الذات.
في ضوء هذه النماذج، يمكن القول إن ما يُسمى اليوم بـ Autofiction أصبح موضوعاً حيّاً في النقد الغربي. فمنذ أن صاغ سيرج دوبروفسكي المصطلح عام 1977، تغيّرت مقاربتنا للبوح؛ إذ يرى دوبروفسكي أن السيرة الذاتية الروائية "كتابة ذاتية لا تدّعي الدقة، بل تُبرز الجرح". وتقترح آني إرنو، أن يكون ضمير الغائب أداة لزعزعة سلطة الأنا. أما عند كارل أوفه كناوسغورد، فالسيرة تمتد لآلاف الصفحات، تحطم الحدود بين الحياة والكتابة، بين الكاتب وأقاربه، وتخلق توتراً وجودياً على حافة الاعتراف والخيانة.
في المقابل، يرى نقّاد معاصرون مثل لورين أُيلر وزام بيرل أن هذا الأدب ليس شفافية، بل وهم الشفافية؛ لعبة ذكية بين الكاتب والقارئ، تمرين سردي على صناعة الانكشاف، من دون أن يكون هناك انكشاف حقيقي. إنهم جميعاً يعززون فكرة أن البوح الأدبي ليس فضحاً، بل تمرين دقيق على خلق واقع بديل نصدّقه لأنه يُشبهنا، لا لأنه مطابق لما جرى.
ففي النهاية، أدب البوح لا يسعى إلى الحقيقة، بل إلى ما يشبهها. لا يحكي الوقائع، بل يقتفي أثرها في الروح. وكل محاولة لكتابة الذات، مهما كانت مراوغة، هي وقوف على حافة جرح قديم. الكاتب الذي يبوح لا يريد أن يشرح نفسه، بل أن يحتملها. وربما هذا، وحده، كافٍ.
* كاتبة وروائية من لبنان
