استراتيجيّة التراث بين المساءلة وإعادة البناء
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

من الأهمية بمكان أن نتوقف عند فكرة استراتيجية التراث، ونتعرّف على مجمل معانيها وامتداد مساحاتها؛ إن معاني البصيرة الاستراتيجية التي يجد فيها المكوّن التراثي مكاناً ومكانة لا يمكن التغاضي عنها؛ الاستراتيجية في أجلى معانيها هي عقل العمل الذي يرتبط بعِلمين؛ علم التدبر والتدبير، وعلم الحركة والتغيير. التعرف على الساحة التراثية امتداداً وتصنيفاً؛ توصيفاً وتوظيفاً؛ وخرائطه في الحقل التراثي تنوعاً وامتداداً؛ يشكل خريطة إدراكية مهمّة ومعقدة؛ تمهيداً للمساءلة الراشدة والواعية والتوظيف الدافع والرافع؛ كما يرتبط بمهمّة لازمة ومتقدّمة لاستراتيجية البناء التراثي، وإعادة البناء وعمليات التجديد والإحياء.

يجب أن تقترن دراسة مصفوفة الدواعي بمدافعة التحدّيات التي تواجهها والاستجابات المسؤولة التي تبنيها وتتابع مآلاتها والآثار المترتبة عليها، فبين المسألة والمساءلة هناك مساحات وساحات في المجال التراثي، منها الداعي التجديدي والإصلاحي، والداعي الاحيائي، والمراجعة والنقد الذاتي وبناء رؤية استراتيجية للتراث للحفاظ على الهوية، وتعدّد (وتنوّع) مناهج القراءات التراثية، والمواقف التراثية السجالية، والحالة الاتهامية والإسقاطية، ورفع الالتباس التراثي والداعي المعرفي والمنهجي والبحثي.

إنها مساءلة اتسع نطاقها، لأن الأمر، وفق هذه الرؤية، يتأسّس على أن الاستراتيجية التراثية تستأهل منا أن نفكّر تفكيراً استراتيجياً حضارياً، يتعرف على المسألة التراثية بكل مكوناتها؛ المحتوى، والقارئ، والمتلقّي، وبالظاهرة التراثية بكل مقوّماتها وتفاعلاتها؛ فالظاهرة التراثية من أهم الظواهر المعقّدة، وهي أمر لا نظن أن التوجّهات العلمية في حداثتها في مقام نظرية المعرفة ونظريات العلم قد تجاهلته، بل بدت تلامسه ولو بالمسّ الخفيف في إطار أعمال معرفية لنقد ما يُسمى العقل المعتاد، والعقل الأعمى، وظهور المداخل إلى الفكر المركّب، من خلال الكشف عن العناصر الفارقة والمداخل الكاشفة.

قراءة التراث عبر الحداثة، وقراءة الحداثة عبر التراث. قراءات قد تشير إلى التحيز القافل والتحيز الناقل

المساءلة بهذه المعاني والرؤية الاستراتيجية؛ سؤال وأسئلة، مسائل ومناهج، مسؤولية والتزام، قراءة ومراجعة بصيرة وليست اتهام أو محاكمة، والمساءلة ليست إسقاطاً من الحاضر على الماضي، أو من الماضي على الحاضر، فإن ذلك خروجٌ على حد المنهج والمنهاجية. ولكن الأمر في نطاق العبرة والاستفادة يجب أن يتمثل قراءة الاستثمار لا الإهدار. المساءلة هي النظر إلى التراث باعتباره أول مداخل بناء الرؤية الاستراتيجية للحفاظ على الذاكرة، والتمكين للهوية إحياء ونهوضاً. هكذا يجب النظر إلى مسألة التراث والتساؤل حوله، باعتبار أن العملية التراثية أطراف وتفاعلات وعلاقات، أصول وأسس ومتغيّرات، ماض وحاضر ومآلات ضمن رؤية مستقبلية استشرافية، كلية وحضارية.

جعل التراث محنّطاً يعرض ضمن معارض تدلّ على الحضارة الغابرة والثقافة التي توارت ولم يبق لها من أثر إلا الحجر. لم تترك هذه الرؤية الحجرية للتراث مجالاً للتعرف على تواصل البشر في حركة التراث؛ التراث الحي فينا ولنا وبنا، فالتراث بين القراءة الغابرة وإحسان القراءة، وكذا فإنه بين حفظين، التجميد والتجديد، ذلك أن القراءة الحجرية مارست عملها في القراءة بإلقاء الحجارة على البناء التراثي، لتنال منه ولم تتعرّف على أصول القراءات العالمة والفاعلة. ومن هنا لا بد أن تقترن المساءلة التراثية بالتعرّف على ما هو التراث وما هي المعاصرة، ومن ثم لنا أن نتساءل عن علاقة التراث بالحداثة؟ ومن ثم نستطيع أن نشير إلى اقتران المساءلة التراثية بمقدّمات أربع تفهم بميزان الحكمة: الذاكرة الحضارية الممتدّة. قراءة التراث عبر الحداثة، وقراءة الحداثة عبر التراث. قراءات قد تشير إلى التحيز القافل والتحيز الناقل. القراءة البصيرة في إطار الجدل الفكري القائم على ميزان النفع والحكمة، والتي نؤكد أنها الأصل الذي يجمع بين التراث والعصر من دون افتعال أو اعتساف أو تحكيم لأحدهما في الآخر. علم الموازين الحضارية ليس الميزان (القباني) ولكنه ميزان (الذهب) الحساس لأن الخطأ فيه خلل في الحضارة وخطيئة في حق البشر، وخطأ في حقّ الإنسانية بموازين الفطرة النافعة والحكمة السامية.

خريطة الأسئلة مسكونة بالتراث بشكل مباشر أو غير مباشر؛ حيث سنجد التراث حاضراً بقوة التأثير والفعل أو بالهاجس الملحّ الذي لا يمكن تجاوزه أو التغافل والتغاضي عنه

وتبدو أسئلة التراث وما يتعلق بها من إشكالات الهوية وغيرها بسيطة في ألفاظها وفي تركيباتها اللغوية، ولكنها لا تزال في حاجة إلى دراسات متأنية فاحصة، لا تتوقف عند شطآن الظاهرة بأساليب منهاجية معتادة، بل هي في حاجة إلى الغوص للحصول على لآلئ التراث صغيرة في حجمها، منفردة في حدوثها، ولكنها عالية في قيمتها... ما زالت هذه الأسئلة البسيطة في حاجة لأن تُتلمّس بصددها إجابات معقدة، ومن ثم فإن سؤال "على أي أرض نقف؟" يدفعنا إلى النظر إلى أن الموقف لا بد أن يتحرّك على قاعدة من أصل الهوية، على فهم بصير وقدير لها؛ وضمن متوالية أسئلة مهمة تراعي ليس فقط صياغة السؤال الصحيح، بل ترتيبه، وهي أمورٌ ستحقق كل العناصر التي تشكل موقف الحكمة النافي كلَّ حالات التعامل التراثي بالفسخ أو المسخ أو النسخ.

خريطة الأسئلة مسكونة بالتراث بشكل مباشر أو غير مباشر؛ حيث سنجد التراث حاضراً بقوة التأثير والفعل أو بالهاجس الملحّ الذي لا يمكن تجاوزه أو التغافل والتغاضي عنه أو القفز عليه من مثل؛ سؤال الأزمة، سؤال الفاعلية، سؤال النهضة، سؤال الإصلاح، سؤال التجديد، سؤال الهوية، سؤال التنمية، سؤال السياسي، سؤال العلاقات الدولية، سؤال الخطاب وصياغته، وسؤال المؤسسية، سؤال المرجعية، سؤال الملائمة واللياقة، سؤال رؤية العالم، سؤال القيم، سؤال التراث، سؤال التعامل مع الواقع: ما العمل؟ سؤال التاريخ، سؤال المستقبل؛ هذه الأسئلة المسكونة بالتراث يجب أن تتحرّك صوب الأسئلة العامرة؛ عمارة التراث: وعمارة الأكوان وعمارة الإنسان، في الجمع بين قراءتين ومسالك متنوعة، فتعدد المسالك راحة للسالك

لماذا لا يكون التراث هو ذلك الأمر الذي يحلّ سهلاً ميسراً مرحّباً به، لا مرهقاً يجعل من أمرنا رهقاً؟ فيحل على هذه الأسئلة فيحل عقدتها (حلول الحل... لا حلول التعقيد والتأزيم). ومن هنا تأتي أهمية مساءلة الأسئلة من خلال الأسئلة النافعة والحقيقية وتجدد الأسئلة وتوليدها، وحسن تراتب الأسئلة بعيداً عن الأسئلة المحنطة، والأسئلة الميتة، والأسئلة المنتقمة، والأسئلة المخذولة، والأسئلة التابعة، والأسئلة الزائفة، وأسئلة الالتفاف، والأسئلة القاتلة، وأسئلة خارج الزمن، وأسئلة خارج التصوّر العقلي، والأسئلة المفخّخة؛ تصفح هذه الأسئلة على تعدّدها وتنوّعها وعلى إضافتها ستجدها مسكونة بالتراث، شئنا أم أبينا، كقدرة للتعامل مع الواقع والعصر سواء بسواء... هذا التصفح والقراءة هو من جملة فعل القراءة الحضارية للإنسان الذي طغى واستغنى عن العالمين، فتأثر واغتنى، لا الإنسان الذي استغنى بخلق الله فأخذ وأعطى {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126].

القراءة الحجرية مارست عملها في القراءة بإلقاء الحجارة على البناء التراثي، لتنال منه ولم تتعرّف على أصول القراءات العالمة والفاعلة

ومن هنا، يمكننا الإشارة إلى قواعد منهج النقد التي تجعلنا نعتبره استراتيجية في التفكير وفي التعامل مع مثل هذه القضايا:

منهج المقارنة وإدراك الاختلاف والتنوّع. منهجية في بناء المعرفة وتنميتها المعتمدة على المساءلة والشك والحيرة. إفضاء المساءلة إلى المحاكمة. إفضاء المساءلة إلى المنهجية. اكتساب الأدوات المنهجية بوصفها مساءلة التاريخ. المساءلة: مِمَّن؟ ولمن؟لماذا؟ وكيف؟ التعامل مع التراث بوعي تاريخي. التعامل مع التراث بمنظار نقدي. من المسائل ومن المسؤول؟ فعل القراءة الاستهلاكي. استهلاك النتائج المترتّبة على قراءة الآخرين (المساءلة). المساءلة والقراءة النقدية الشاملة للتراث والفطنة للتحيزات ناقلة أو قافلة.

تحول المساءلة إلى مساجلة ومغالبة؛ إلى محاكمة؛ إلى مساومة؛ إلى مهاترة؛ إلى مغامرة؛ إلى مخاطرة؛ إلى مؤامرة؛ إلى مزاحمة، الخروج من حال المساءلة المَرضِيّ إلى حال من المساءلة المنهجي أول عتبات تحرير المواقف على طريق التوظيف والتجديد؛ وهذا شأنٌ لو تعلمون خطير في أهميته؛ كبيرٌ في رسالته ومهمّته.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية