
أربكت الحرب الإسرائيلية الإيرانية السلطات المصرية التي سارعت إلى تشكيل لجنة أزمة برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وإعداد خطة طوارئ، بينما لم تدخل مصر الحرب ولا تقف مع طرف ضد آخر بأي شكل كان سياسياً أو دبلوماسياً. اجتماع طارئ بحضور وزيري التموين والبترول واستدعاء محافظ البنك المركزي لتدبير عملات صعبة برصيد كاف لهما، الأول يزيد به المخزون الاستراتيجي للسلع الأساسية، والثاني لشراء مليون طن مازوت وبدائل أخرى للغاز الذي قطعته إسرائيل فور شنها هجوماً على إيران في الثالث عشر من الشهر الجاري، سبقها تقليص كبير في نسب التسليم ما ترتب عليه إغلاق غالبية المصانع بإخطار رسمي وحتى إشعار آخر.
الاجتماع والخطة واللجنة تحمل اسم الطوارئ، لكنها لم تنقذ المصانع ومجتمع الأعمال، وليت العواقب تنتهي عند هذا الحد، إنما زاد عليها إعلان ترشيد استهلاك الكهرباء الموجهة للمواطنين والعاملين بالجهاز الإداري للدولة بنسب عالية جداً، فعلى سبيل المثال تقليص إنارة الشوارع والميادين بنسبة 60% بمعدل إطفاء ثلاثة أعمدة وإضاءة واحد، وإضافة عدد من الممنوعات كمنع استخدام الكاتيل (الغلاية) والسخانات في الأجهزة الحكومية، وتقليص الاستهلاك 40% مع البعد عن تشغيل المكيفات، والاعتماد على الإضاءة الطبيعية نهاراً ولأطول وقت ممكن، وكذلك تحمل الحر بسبب ما دخلت فيه البلاد من ظرفٍ حرج.
لكن على صعيد جانبي الصراع، هل زادت إسرائيل أو إيران أسعار النقل؟ هل أعلنتا خطة طوارئ لاستهلاك الكهرباء والغاز؟ وهما المتحاربتان بينما مصر تنعم بالسلم والأمن والرخاء. وماذا عن العام الماضي والذي سبقه أيضاً؟ هل كانت إسرائيل تحارب إيران؟ ومع ذلك أعلنت مصر أن ذلك التوقيت حرج وخرجت بخطة طوارئ ورفعت أسعار الكهرباء والمحروقات رغم انقطاعات للتيار كانت تصل لثلاث ساعات في المرة الواحدة، والتي كانت تتكرر غير مرة في اليوم الواحد. المصريون يكابدون من حرب إلى حرب دون أن يدخلوا واحدة منها والسبب بات واضحاً جداً!
أسعار مرتفعة وسط قطع الخدمات
تأتي هذه التطورات، بينما تتعالى الأصوات انتقاداً لتسارع السلطات في رفع أسعار الخدمات الأساسية، حيث تمضي قدماً في تنفيذ متطلبات المراجعة الخامسة لصندوق النقد الدولي سعياً للوصول إلى استرداد التكلفة الكاملة للخدمات كالوقود والكهرباء ويتبع ذلك النقل والاتصالات ثم خدمات التعليم والصحة، قد يتفهم الناس بعضاً من هذا حتى وهم يرفضونه، لما له من أعباء جمة يضيقون بها ذرعاً، لكن الكثير من الاقتصاديين يرون في حرب إسرائيل وإيران فرصة للسلطات المأزومة كما كانت اعتداءات إسرائيل على غزة وجنوب لبنان.
بدأ القرض الجاري لمصر بقيمة ثلاثة مليارات دولار، وكان يمر بفترة من التعقيد والتجميد حتى بدأت إسرائيل بضرب غزة وتوسعت عملياتها إلى جنوب لبنان، ما دفع السلطات المصرية إلى إرسال وفود، على رأسها وزير المالية السابق محمد معيط والقائم بأعمال محافظ البنك المركزي حسن عبدالله، للقاء ممثلين لصندوق النقد الدولي، مرة في المغرب وأخرى في أوروبا وثالثة في واشنطن، وكان من بين الوفد المصري رئيس البنك التجاري الدولي الحالي وكان حينها مستشاراً لم يمكث في البنك المركزي إلا ثلاثة أشهر فقط. توسطت وزيرة الخزانة الأميركية آنذاك الاقتصادية المخضرمة جانيت يلين، وهي التي كانت رئيس الاحتياطي الفيدرالي قبل توليها الخزانة، أي أنها من أشد المتفهمين لمبررات الوزير والمحافظ المصريين، حيث شرح الوفد مدى تأثر مصر سلباً بالتوترات الجيوسياسية المجاورة التي أثرت على تدفقات العملات الصعبة، سواء من قناة السويس أو السياحة كمصدرين أساسيين والتأثيرات الأخرى كارتفاع أسعار المواد الأولية والمشتقات النفطية التي تستوردها البلاد كما المواد الغذائية.
نجحت الوساطة واقتنع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي ومدد القرض وزاد قيمته إلى ثمانية مليارات دولار بدلاً من ثلاثة مليارات، على أن تنفذ مصر صفقة بيع أرض رأس الحكمة، ما اعتبرته السلطات إنجازاً تاريخياً العام الماضي، رغم المآسي الشعبية نتيجة تخفيض الجنيه إلى خمسين جنيهاً تقريباً أمام الدولار.
هذه الأيام وقع الرئيس عبدالفتاح السيسي على قرار جمهوري بتخصيص مساحة 174.399 كيلومتراً مربعاً تطل مباشرة على البحر الأحمر (شرق مصر) من المساحات المملوكة للدولة، ملكية خاصة لمصلحة وزارة المالية من أجل استخدامها في خفض الدين العام للدولة، وإصدار الصكوك السيادية على سبيل تمويل الديون القديمة بأخرى جديدة بتكلفة أقل لضمانها بالأرض ولتوفير حصيلة أكبر بتنويع مصادر الاستدانة، وهنا نحن لا نتحدث عن رأس واحد، إنما رأس بناس ورأس شقير، وهناك أيضاً رأس جميلة في ناحية أخرى، ما يعني أننا في انتظار حصيلة دولارية ضخمة قرب المواطنين، أي ارتفاعات في الأسعار وهم أصحاب تلك الأراضي الشاسعة المعروضة في المزاد.
كل تلك الحجج والمواقف كانت قابلة للعرض على صندوق النقد لأجل تسويف أي قرارات من تلك التي تثقل كاهل المواطنين، وتصنع موجات جديدة من التضخم وتشل الأسواق، وتحرم المنتجين من فرص زيادة الطلب والاستهلاك، ما يأتي برياح لا تشتهيها سفنهم فيقللون خطوط الإنتاج ويقلصون عدد الموظفين، وربما ذلك سيظهر في بيانات مؤشر مديري المشتريات مطلع الشهر القادم، لكن السلطات المصرية لم تعرض أياً من هذا على الصندوق خشية تعثر اعتماد المراجعة الجارية وتأخر قرار المجلس التنفيذي للصندوق باعتماد صرف قيمتها.
الاستثمار الأجنبي بين بروباغندا الجذب والواقع المظلم
كيف للمستثمرين الأجانب بدء مشروعات في بلد تدخل في خطة طوارئ بترشيد استهلاك الكهرباء لجهازها الإداري بنسب تصل إلى 60% أو لمصانع مغلقة بسبب إمدادات الغاز؟! كيف للاستثمار الخارجي أن ينطلق في مصر، وهي التي تشدد سلطاتها ترشيد استهلاك المصاعد الكهربائية في الجهات الحكومية، وكذلك إغلاق أجهزة التكييف من الثانية ظهراً الأشد حراً وحتى العاشرة مساء؟!
أستطيع القول إن خطة الطوارئ تلك تضرب مساعي جذب الاستثمارات الأجنبية في مجالات التصنيع أو الزراعة، فدون أن يدري الجناح الذي أطلقها، وبنظرة ضيقة جداً، أضر جهود وزارة الاستثمار وكذلك التخطيط والتعاون الدولي، كما دفع إلى التشكيك في تلك التصريحات الرسمية التي خرجت قبل خمسة أشهر بأن الدولة أنفقت تريليوني جنيه على شبكات الكهرباء ومثلهما على النقل، بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية لإطلاق المصانع النوعية ومن ثم زيادة الصادرات والعوائد من العملات الصعبة وتحسين الموازين التجارية مع الدول التي نستورد منها، وبالتالي تحسين صحة ميزان الدفوعات، لكن كيف يكون هذا في ظل عبثية التعليمات الأخيرة التي ستخفض إنارة الطرق طوال الليل وتظلم ثلاثة أعمدة من كل أربعة متجاورة؟ ما يدفع أي عقل للبحث في ماهية الإنفاق العالية جداً مقارنة بالنتيجة البائسة جداً.
أين وكيف أنفقت كل تلك المليارات؟ وإلى متى سيستمر المواطنون في دفع ثمن أخطاء لم يرتكبوها؟ ولماذا الإقرار بأنه لا حلول أخرى غير زيادة أسعار الخدمات من ناحية وتقشف شديد وترشيد استهلاك يدفع إلى ارتفاع معدلات المناخ التشاؤمي والبؤس في البلاد؟
