هل الحرب العالمية الثالثة تلوح في الأفق؟
عربي
منذ ساعتين
مشاركة
حين كنا نقرأ في كتب التاريخ عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، بدا الأمر وكأنه ينتمي لعصور مضت، عصور لم تنضج فيها البشرية بعد، ولم تكتشف معنى التعايش الإنساني أو فكرة المنظمات الدولية أو قوانين الحرب وحقوق الإنسان. كنا نعتقد، وربما صدقنا ذلك مطولًا، أن ما شهدته أوروبا من مذابح ومجازر ومعسكرات إبادة وسباق تسلح مجنون، لم يكن سوى نتاج لجهل بشري تجاوزناه. كنا نؤمن بأن العالم اليوم، بثقافته العابرة للحدود، ومنظومته الحقوقية والدبلوماسية المتشابكة، قد حصن نفسه ضد أي كارثة مشابهة.

لكن، يكفي أن نُلقي نظرة متأنية على المشهد العالمي اليوم لندرك أن تلك القناعة كانت -في أحسن أحوالها- أمنية أكثر منها واقعًا. العالم لم يصبح أكثر عقلانية، بل أصبح أكثر تعقيدًا. وإن كانت أدوات الحروب قد تطورت، فإن أسبابها ما زالت كما هي: صراعات نفوذ، أطماع اقتصادية، تنافس أيديولوجي، وتضخم في أنانية الدول الكبرى. كل هذا يُعيد رسم المشهد بطريقة تشبه مقدمات الحروب التي درسناها في كتب التاريخ، وربما تُنذر بمأساة عالمية جديدة: الحرب العالمية الثالثة.

لننظر أولًا إلى ما يحدث في أوروبا الشرقية، تحديدًا في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. هذه الحرب، وإن بدت للوهلة الأولى نزاعًا إقليميًّا، إلا أنها في حقيقتها مواجهة غير مباشرة بين القوى الغربية الكبرى، بقيادة الولايات المتحدة، من جهة، وروسيا من جهة أخرى. حرب بالوكالة، تمولها وتديرها العواصم الكبرى من خلف الستار، وتستخدم فيها كل أدوات الضغط الاقتصادي والدعائي والسيبراني.

وفي شرق آسيا، تتصاعد التوترات بين الصين وتايوان، ومعها القلق المتنامي في بحر الصين الجنوبي. أميركا تتعهد بالدفاع عن تايوان، والصين لا تخفي استعدادها لاستخدام القوة لاستعادة ما تعتبره "أرضًا تابعة لها تاريخيًّا". التصعيد هناك لا يعني مجرد خلاف جغرافي، بل هو صراع على الهيمنة في منطقة تمثل قلب التجارة العالمية ومسارًا استراتيجيًّا حيويًّا.

أما في الشرق الأوسط، فالوضع لا يقل توترًا. الحرب في غزة، واليوم حرب إسرائيل وإيران، والصواريخ التي تملأ السماء وحضور القوى الدولية بأذرعها الأمنية والعسكرية، كلها تُشكل مسرحًا محتملًا لانفجار أكبر، قد لا يبقى محصورًا في الرقعة الجغرافية بل يمتد ويتشظى.

الحروب لا تُخاض فقط بالسلاح، بل بالفكر والوعي والتحليل. الشعوب التي غاصت في التفاهة واكتفت بالتسلية الرخيصة ستجد نفسها بلا حيلة حين تشتعل النيران من حولها

نظريًّا، كنا نعتقد أن الحروب الكبرى لم تعد خيارًا عقلانيًّا في زمن العولمة، لأن التداخل الاقتصادي بين الدول بات يجعل من الحرب خسارة جماعية. ولكن هذا لم يمنع نشوب الحروب، بل جعلها تتخذ أشكالًا أكثر خفاءً في البداية: حروب عملات، عقوبات اقتصادية، حروب سيبرانية، ثم تتطور إلى مواجهات عسكرية فعلية.

اللافت أن بعض القوى بدأت تتعامل مع الاقتصاد باعتباره أداة حرب بحد ذاته. العقوبات الغربية على روسيا، وحصار الصين تكنولوجيًّا، والردود الانتقامية التي تتبعها الدول، كلها تعني أن الاقتصاد لم يعد أداة تنمية فحسب، بل بات ساحة معركة.

الإنسان لم يعد في صلب السياسات الدولية كما يدّعون. المنظمات الإنسانية أصبحت عاجزة أمام سيل النزاعات والانتهاكات. القانون الدولي لم يعد يُحترم، بل يُتلاعب به. مشاهد النزوح الجماعي، وانهيار الدول، وانتشار المجاعات، تؤكد أن "حقوق الإنسان" مجرد شعار تُزين به الدول الكبرى وجهها حين تشاء، وتخلعه حين لا يخدم مصالحها.

العالم يعود اليوم لينقسم على نحو يُذكّرنا بما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين. لم تعد الحرب الباردة مجرد فصل من التاريخ، بل أصبحت واقعًا جديدًا يتشكل: الغرب الليبرالي بقيادة أميركا، في مقابل المعسكر الشرقي الجديد بقيادة الصين وروسيا.

لكن هذا الانقسام لم يعد أيديولوجيًّا بحتًا كما في السابق بين الشيوعية والرأسمالية، بل أضحى صراعًا على شكل النظام العالمي نفسه. هل سيبقى النظام أحادي القطب تحت قيادة واشنطن؟ أم أن القوى الصاعدة قادرة على تشكيل نظام متعدد الأقطاب أكثر عدالة -على حد وصفها- لكنه لا يخلو من استبداد مقنع؟

جزء كبير من الصراع الدائر اليوم هو صراع على الوعي. الإعلام لم يعد ناقلًا للخبر، بل سلاحًا يُوجّه الرأي العام ويُعيد تشكيل الحقائق. الحروب النفسية والمعلومات المضللة باتت تُستخدم لتفكيك المجتمعات من الداخل، وتبرير التدخلات الخارجية. كل ما نراه على الشاشات، من نشرات إخبارية وصور ضحايا وخطابات زعماء، هو جزء من معركة كبرى، لا تقل عن وقع القذائف والدبابات.

في هذا المشهد الكوني المهدد، لا ينجو إلا من يملك القوة: القوة الاقتصادية، العسكرية، والتكنولوجية. ومن لا يمتلك هذه الأدوات، لا ينتظره سوى أن يكون وقودًا في معارك الكبار، أو رقمًا في عداد الضحايا.

أما الشعوب التي غاصت في التفاهة، واكتفت بالتسلية الرخيصة والتخدير الثقافي، فستجد نفسها بلا حيلة حين تشتعل النيران من حولها. فالحروب لا تُخاض فقط بالسلاح، بل بالفكر والوعي والتحليل والإدراك.

إن ما يُنذر بالخطر ليس فقط اقتراب الحرب كحدث عسكري، بل غياب الوعي الجمعي عند الشعوب. حين تتوقف الأمم عن طرح الأسئلة، وتكتفي بتلقي ما يُعرض عليها، تتحول إلى فريسة سهلة في لحظة الحسم.

لا أحد يستطيع الجزم بموعد اندلاع حرب عالمية ثالثة، ولكن المؤشرات مقلقة بما يكفي. التشظي الدولي، التنافس على الموارد، غياب الثقة بين الدول، سباق التسلح النووي، انهيار المنظومة القانونية الدولية، كلها عوامل تشكل أرضية خصبة لكارثة عالمية جديدة.

ربما لا تقع الحرب غدًا، وربما لا تقع بالصيغة التي وقعت بها سابقًا، لكنها بالتأكيد لم تعد مستحيلة كما كنا نظن. وعلينا -كأفراد وشعوب ومجتمعات- أن نتهيأ، لا فقط بالأسلحة، بل بالوعي، بالتحليل، وبإعادة صياغة علاقتنا بالعالم. فالعالم لا يُدار بالأمنيات. ومن لا يُعد نفسه لمواجهة الممكن، سيكون أول من يسقط حين يصبح هذا الممكن واقعًا.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية