
مع أواخر خمسينيات القرن الماضي، لاحت في أفق الحياة الفنية المصرية فرقة نسائية تضم ثلاث شابات من خريجات معهد الموسيقى العربية في القاهرة، هن صفاء لطفي وسناء الباروني ووفاء مصطفى، وتحت عنوان جذاب هو "الثلاثي المرح".
خلال فترة وجيزة، استطاعت الفرقة أن تصبح جزءاً مهماً من المشهد الغنائي المصري، بعد النجاح الكبير لعدد من أغانيها الاجتماعية الخفيفة والمرحة. بدت الفرقة وكأنها تملك رؤية جديدة للأداء النسائي الجماعي، وأثبت أعضاؤها قدرة كبيرة على التآلف الفني، وأيضاً قدرة واضحة على التكيف المرن مع المنظومة الفنية والإعلامية التي تبلورت بعد ثورة يوليو 1952.
ارتبط اسم الفرقة بأجواء البهجة في المناسبات الدينية والاجتماعية، ومثلت لوناً مختلفاً تتبناه الإذاعة المصرية، ويرعاه الموسيقي المصري البارز علي إسماعيل. ومع النجاح الواضح، حرص الملحنون على التعاون مع الفرقة التي غزت كل بيت عبر أثير الراديو، ثم البث التلفزيوني، وقبلت الجماهير كل أغانيها، بعدما وجدت فيها وسيلة إلى البهجة، وطريقة معتمدة لكسر الملل الموسيقي والرتابة الغنائية.
في الفترة التي سبقت تدشين الفرقة، كانت صفاء وسناء تتعاونان في تقديم أغان وعروض تتسم بالنشاط والصخب، داخل حديقة معهد الموسيقى العتيد، ثم انضمت وفاء إليهما ليتحول الثنائي إلى ثلاثي، ساعدته ظروف مواتية، تمثلت في سعي دؤوب من القائمين على الإذاعة المصرية بحثاً عن مواهب جديدة، تمتلك القدرة على مواكبة المستجدات السياسية والاجتماعية في المجتمع المصري، ولديها ما تجتذب به الجماهير الواسعة في القرى والنجوع ومراكز الصعيد والدلتا.
وفي ظل هذه الأجواء المرحبة، ساقت المصادفة الموسيقي المرموق علي إسماعيل إلى حديقة المعهد، فاستمع إلى الفتيات الثلاث، ووجد في استعراضاتهن وغنائهن ما يملأ مساحة خالية لدى الإذاعة المصرية.. كان دور إسماعيل كبيراً في رعاية الفرقة وإطلاقها، وحتى اختيار اسمها.
لحن إسماعيل الأغاني الأولى للفرقة، فكانت قوة دافعة كبيرة إلى تعريف الجماهير بها، وفي مقدمة هذه الألحان الأغنية الرمضانية الشهيرة "أهو جه يا ولاد"، التي كتبتها الشاعرة الغنائية نبيلة قنديل، زوجة علي إسماعيل، وستسهم بنصيب وافر من نصوص أغاني "الثلاثي المرح"، كما سيكون زوجها صاحب الجانب الأكبر من ألحان الفرقة.
أدى نجاح أغنية "أهو جه يا ولاد" إلى حالة من الارتباط الوجداني بين الثلاثي وشهر رمضان. ويبدو أن الإذاعة ومستشاريها قرّروا استغلال تلك الحالة، وتقويتها بعدد من الأغاني الرمضانية، ومنها: "سبحة رمضان"، و"يا صايم قوم افطر"، و"أهلاً أهلاً يا رمضان"، و"شهر الصيام ابتدى"، و"هل هلال الصوم"، و"عودة رمضان"، و"افرحوا يا بنات"، و"الشيخ رمضان رجع تاني"، و"وحوي يا وحوي"، وهي أغنية تختلف في كلماتها ولحنها عن أغنية أحمد عبد القادر الشهيرة، كما اشتركت الفرقة في أوبريت إذاعي بعنوان "رمضان في الحسين".
تدريجياً، بدأت معالم الخطة التي اختارتها الفرقة تتبين للجماهير، فـ"الثلاثي المرح"، التي يمكن اعتبارها أول فرقة غنائية نسائية تعرفها الإذاعة المصرية، آثرت الغناء للمناسبات ذات الطابع الاجتماعي، التي تمس الأغلبية الساحقة من الجماهير، أو بمعنى أوضح، كان غناء الفرقة لكل حدث يمس عموم الناس، دينياً كان أم اجتماعياً أم سياسياً. غنت الفرقة للأعياد، ومناسبات الزفاف، وللعمال والفلاحين، وللحجاج، وقضايا الدولة الناصرية، وللعواصم العربية، كما غنت للأم وللأطفال، وللحارة المصرية، وللمرضى في المستشفيات، وللنادي الأهلي، كما غنت كثيراً من الأدعية والابتهالات.
يكشف الاستماع إلى قائمة أغنيات الفرقة عن أنها لم تكن حفية بالغناء العاطفي الصرف، ولا بكلمات الحب والهجر واللوعة، وفي المرات القليلة التي قدم فيها الفريق غناء عاطفياً. كانت الكلمات متسمة بمسحة كوميدية، وباستخفاف مرح. فالفرقة منشغلة بإذهاب الهم عن المهمومين لا بتعميق أحزانهم.
مثلت التوجهات العامة لثورة يوليو والرئيس جمال عبد الناصر موضوعاً أساسياً في غناء "الثلاثي المرح"، فغنّين للقومية العربية، ولعيد جلاء القوات البريطانية، ولوحدة مصر وسورية، ولثورة اليمن، ولنضال الشعوب الأفريقية ضد الاستعمار، وللسد العالي، ولعيد إنشاء إذاعة صوت العرب، وللصناعات العسكرية، ولعيد الطيران.
ويرجع عبد الناصر من رحلة خارجية فتغني الفرقة "جيت بالسلامة يا ريس". تشكل هذه الأغاني جانباً كبيراً من التسجيلات التي تركتها الفرقة، وهي أعمال لا يمكن فهمها إلا بفهم سياقاتها، ومن المؤكد أن بعضها فقد كل مبررات استمراره، وإلا فمن الصعب على شاب من الجيل المعاصر أن يستوعب سبب الغناء لمشروع الصوت والضوء عند أهرام الجيزة وتمثال أبو الهول.
جذب فريق الثلاثي المرح اهتمام الملحنين، ليس بسبب النجاح الجماهيري الذي حققته أغانيه فقط، ولكن أيضاً بسبب الأسلوب الغنائي للفرقة، فالفتيات الثلاث يؤدّين الأغاني في توافق مدهش، كأنهن صوت واحد، ولا يصدر عن أي منهن أي محاولة -ولو في غاية الضآلة- للاستعراض أو التميز، ولو حتى من خلال تصرف جمالي قد يشكل إضافة فنية يقبلها المستمع. ولا ريب أن هذا النمط الآلي من الأداء يمثل فرصة للملحن كي يقدم تفكيره النغمي كاملاً، من دون أن يحمل هم الأمانة الأدائية أو أن يقلق من تصرفات المطرب، ولا سيما إن كان ممن يفرطون في الحلايا والزخارف الصوتية.
ولذا، استطاعت الفرقة خلال سنوات قليلة أن توسع من قائمة الموسيقيين الذين قدموا لها الألحان، لتضم عدداً كبيراً من الأسماء المهمة، ومنهم: أحمد صدقي، وعبد العظيم محمد، ومحمود الشريف، وعبد العظيم عبد الحق، ومحمد فوزي، ومنير مراد، ومدحت عاصم، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وحسين جنيد، ورؤوف ذهني، وفؤاد حلمي، وعطية شرارة، وعبد الرؤوف عيسى، وحلمي أمين، وعز الدين حسني، ورياض البندك، ومحمد محسن، وحلمي بكر.
واتسعت قائمة الشعراء الذين قدموا لها النصوص لتضم: بيرم التونسي، وصلاح جاهين، ومصطفى عبد الرحمن، وفتحي قورة، وعبد الوهاب محمد، ومرسي جميل عزيز، وصالح جودت، ومأمون الشناوي، وبخيت بيومي، وعبد الرحمن الأبنودي، وإمام الصفطاوي، وعبد العزيز سلام، ومحسن الخياط، وغيرهم.
اتسعت جماهيرية الفرقة، وتجاوزت الحدود المصرية إلى مختلف بلدان العالم العربي، ولا سيما مع الزيارات الفنية التي نفذتها إلى عدد من البلدان العربية، وفي العراق قدمن حفلات ناجحة وتأثر الجمهور كثيراً عندما أدت الفرقة باللهجة العراقية أغنية "أسعد يوم"، من تلحين العراقي رضا علي، كما سافر الفريق إلى لبنان لتسجيل أغان من التراث الليبي مثل "يا العنب"، و"يا صغير في صغارنا". وفي أواخر الستينيات، زُرن العاصمة الأردنية لتسجيل عدد من الأعمال للتلفزيون الأردني.
لم تكن "الثلاثي المرح" مجرد فرقة غنائية، لكنها مثلت ظاهرة اجتماعية وفنية تجاوزت حدود الموسيقى الإذاعية لتلتحم بوطنية البهجة الشعبية، وتصبح جزءاً من ذاكرة مصر التي تحتفل بالفوانيس، والمدفع، وفرحة الريف، وألوان السهر الجماعي. تكونت الفرقة في خمسينيات القرن الماضي من ثلاث فتيات شابات اجتمعن على نمط غنائي متناغم، يحمل البهجة والعذوبة، وينقل روح مصر الاجتماعية والوطنية في مرحلة ما بعد الثورة.
منذ الوهلة الأولى، كان واضحاً أن هناك شيئاً جديداً يلوح في الأفق. فـ"الثلاثي المرح" لم تكن مجرد تجمع لأصوات نسائية، بل كانت مشروعاً غنائياً متكاملاً يقوم على التناسق الصوتي والدرامي، والتوزيع الذكي للأدوار داخل الأغنية الواحدة، مع توظيف التعدد الصوتي في تقديم أعمال تحمل البساطة والعمق في آن واحد. وقد مهدت هذه الرؤية الطريق أمام فرقة نسائية شابة أثبتت جدارتها في عالم فني ظل لسنوات طويلة مقتصراً على الأصوات الفردية.
بلغت الفرقة ذروتها في عقدي الستينيات والسبعينيات، فباتت أغانيها جزءاً من المشهد الثقافي المصري، وشاركت غنائياً في عدد من الأفلام السينمائية، وقدمت مسرحيات استعراضية للأطفال، وكان لها برنامج إذاعي شهير بعنوان "عصافير الجنة"، الذي تميز بجمعه بين الغناء والدراما الطفولية. وقد استُقبل البرنامج بحفاوة كبيرة، لما فيه من تنوع بين الترفيه والتثقيف.
لكن مع مطلع الثمانينيات، بدأ بريق الفرقة يخفت تدريجياً، لأسباب متعددة. منها تغير الذوق العام، وصعود أنماط غنائية جديدة، إلى جانب انسحاب بعض العضوات من العمل الفني، سواء لأسباب شخصية أو عائلية.
وقد كان لرحيل سناء الباروني عن الفرقة أثر كبير في تراجع نشاطها، ثم توالى الغياب تدريجياً، حتى توقفت الفرقة عن تقديم أعمال جديدة. كما أن تغير مناخ الإنتاج الفني، وانحسار دعم الدولة للأعمال الجماعية، جعلا من الاستمرار أمراً صعباً.
رغم ذلك، ظل إرث "الثلاثي المرح" حاضراً في الذاكرة. فقد أعيد تقديم بعض أغانيها في حفلات وأعمال درامية، كما أعادت بعض الفرق الشبابية توزيع أغانيها بروح عصرية، ما ساهم في تعريف أجيال جديدة بهن. وساهمت منصات الإنترنت في إحياء أرشيفهن، من خلال مقاطع الفيديو والتسجيلات النادرة.
ما يمنح تجربة "الثلاثي المرح" خصوصيتها هو أنها لم تكن مجرد تجربة نسائية في مجتمع محافظ، بل كانت مشروعاً فنياً متكاملاً، ارتكز على تناغم جماعي نادر، ورؤية فنية واعية. لقد قدمن نموذجاً للغناء الجماعي الخالي من الصراعات الفردية، وللفن المرح الذي لا ينفصل عن الهم الاجتماعي.
