
أصدرت محكمة جنايات حلوان حكمها في واحدة من أخطر قضايا الفساد الإداري في مصر، بعد تحقيقات موسعة كشفت عن وقائع رشوة ضخمة داخل جهاز تعمير القاهرة الكبرى وهيئة الطرق والكباري، طاولت مسؤولين بارزين ورجال أعمال. القضية التي حملت رقم 17 لسنة 2025 كلي حلوان، والمقيدة برقم 2307 لسنة 2025 جنايات أمن الدولة العليا، انتهت بإدانة ثلاثة متهمين رئيسيين بالسجن المشدد 15 عامًا لكل منهم، بينما حصل المتهم الرابع، وهو مالك إحدى شركات المقاولات، على إعفاء من العقوبة بعد تعاونه مع جهات التحقيق، استنادًا إلى نص قانوني يسمح بإعفاء الراشي إذا بادر بالاعتراف.
وتفجرت القضية إثر تحريات دقيقة أجرتها هيئة الرقابة الإدارية، وردت فيها معلومات موثقة عن طلب مدير عام الطرق والكباري بجهاز تعمير القاهرة الكبرى، إبراهيم زكريا فيصل سليمان، وشهرته "إبراهيم أبو عريضة"، مبالغ مالية ضخمة من أحد رجال الأعمال مقابل تسهيل تسلّم مشروعات وإنهاء مستخلصات مالية لصالح شركته، وهي شركة الرواء للمقاولات والتوريدات العامة. وبعد استصدار إذن النيابة العامة، تم تسجيل مكالمات هاتفية بين المتهمين، وثّقت طلب مبلغ ستة ملايين جنيه رشوةً، تم تحويلها إلى حسابات شركات وسيطة مملوكة لمتهمين آخرين، ثم سُحبت على دفعات، وسُلمت إلى الموظف العام أو حُوّلت إلى أطراف أخرى لإخفاء معالم الجريمة.
وأظهرت التحقيقات أن الرشوة دُفعت مقابل تسهيلات كبيرة في تنفيذ مشاريع ضخمة بمنطقة الفسطاط، ذات طابع أثري وتاريخي، من بينها إنشاء الأسوار الخارجية، ومبنى النادي المصري القاهري، ومنطقة القصبة، وواجهات شارع الحسن الأنور أمام مسجد عمرو بن العاص، والمخزن المتحفي ضمن مشروع الحدائق التراثية. صدرت جميع أوامر الإسناد بالأمر المباشر، من دون طرحها في مناقصات، وبلغت القيمة الإجمالية لهذه المشروعات نحو مليار و366 مليون جنيه. ووفقًا للتحقيقات، فإن المتهم الأول قام بالتوقيع بنفسه على مستخلصات بقيمة 677 مليون جنيه لصالح الشركة مقدمة الرشوة، لتُصرف لاحقًا من الميزانية العامة.
وكانت الشخصية المركزية في القضية، إبراهيم زكريا، وهو موظف حكومي عمل في جهاز التعمير منذ عام 2003، وتدرج في المناصب حتى شغل منصب مدير عام الطرق والكباري بالإدارة المركزية للتنفيذ في منتصف عام 2023. وأقرّ في التحقيقات بأنه كان المشرف العام على مشروع "حديقة الفسطاط"، وهو مشروع قومي ضخم يموله صندوق التنمية الحضرية التابع لمجلس الوزراء، وتبلغ تكلفته أكثر من 10 مليارات جنيه. وكان يتمتع بسلطة تنسيقية وتنفيذية واسعة، تتضمن ترشيح الشركات المنفذة، واعتماد المستخلصات، وتحديد أولوية صرف المستحقات، وهو ما استغله لترسية أعمال بالمليارات لشركات بعينها، بينها شركة المتهم الثاني.
وأظهرت التحقيقات شبكة مصالح متشابكة بين المسؤول الحكومي وثلاثة من رجال الأعمال، بينهم شقيقه وابن شقيقه. فقد اعترف المتهم جمعة حسين، مالك مؤسسة الأندلس للمقاولات، بأنه تلقى مبالغ من شركة الرواء في حساب شركته، ثم قام بتسييلها وتسليمها نقدًا إلى المتهم الأول أو استخدامها في تحويلات أخرى. وبدوره، تولى المتهم الثالث، أسامة محمد زكريا، التنسيق بين الطرفين، ومتابعة تحويلات الأموال، وإرسال صور إيصالات التحويل عبر تطبيقات الهاتف إلى المستفيدين.
ومن بين الأدلة التي دعمت اتهامات النيابة، جاءت شهادة رجل الأعمال إسلام فاهم عبد الرحمن، مالك شركة اليسر لتشغيل المعادن، الذي أقر بأن علاقة عمل كانت تربطه بالمتهم الرابع في مشروع مياه شرب تابع لجهاز مدينة الشيخ زايد. وفي أحد اللقاءات، أخبره الأخير بأن مدير الطرق والكباري سيضخ أموالًا لاستكمال المشروع، على أن تُرد إليه بعد صرف مستحقات الشركة. وبالفعل، تلقى نجل الشاهد مبلغ 3.5 ملايين جنيه في حسابه البنكي، لكن الخلافات نشبت لاحقًا بسبب إخلال الطرف الآخر بالاتفاق، مما دفع المسؤول الحكومي لمطالبة الشاهد بإعادة الأموال بحجة أنها تخصه.
وكشفت القضية كذلك أن أعمالًا بمئات الملايين من الجنيهات أُسندت إلى شركات قبل صدور أوامر الإسناد الرسمية، وهو ما برره المتهم الأول في التحقيقات بحرصه على تسريع وتيرة الإنجاز تنفيذًا لتوجيهات عليا بسرعة تسليم مشروع حديقة الفسطاط. وذكر أن شركة "الرواء" أُسندت إليها أعمال إضافية بعد إعجابه بجودة تنفيذها، بينها إنشاء المخزن المتحفي بقيمة 120 مليون جنيه، وجزء من النادي بقيمة 200 مليون، ثم مشروع "القصبة" بقيمة 300 مليون، وأخيرًا مشروع "سهل القصبة" بقيمة 900 مليون جنيه.
من جانبه، أدلى مدير مكتب وزير الإسكان بشهادة أمام النيابة أكدت أن المتهم الأول كان يوقع بنفسه على المستخلصات بعد اعتمادها من المهندسين، وكان له رأي مؤثر في تحديد أولوية صرف المستحقات في حال تزاحم الشركات على التقديم أو في حال عدم كفاية الاعتماد المالي. وأضاف أن الشركة صاحبة الرشوة حصلت على أوامر إسناد مباشرة في جميع المشاريع التي نُفذت في منطقة الفسطاط تقريبًا.
وتمثلت واحدة من أكثر النقاط إثارة للجدل في هذه القضية في إعفاء مالك شركة الرواء للمقاولات من العقوبة، تطبيقًا لنص قانوني يعفي الراشي في حال اعترافه وتعاونه مع جهات التحقيق. هذا الإجراء، رغم كونه قانونيًّا، أثار نقاشًا واسعًا حول فعاليته في ردع الفساد، خاصة أن الراشي في هذه الحالة استفاد من التسهيلات ونال عقودًا بالمليارات، ثم خرج من القضية من دون عقوبة بمجرد الاعتراف.
ويرى خبراء قانونيون أن هذه القضية تفتح الباب لمراجعة جذرية لآليات الرقابة داخل الجهات التنفيذية، خاصة في ما يتعلق بالإسناد المباشر للمشروعات، والذي تحول في السنوات الأخيرة إلى أداة تتجاوز قواعد المنافسة والشفافية. ويؤكدون أن وجود موظف واحد بصلاحيات توقيع واعتماد وصرف، في غياب رقابة داخلية فعالة، يمثل بيئة خصبة لتمرير وقائع فساد يصعب كشفها مبكرًا.
