
في شوارع غزة، لا يُسمع سوى صوت الطائرات الحربية وتلك المسيرة. وفي وقت يسود الصمت الثقيل داخل البيوت والملاجئ، يغيب الإنترنت كلياً بين حين وآخر ولأيام طويلة، ويترك خلفه سكاناً معزولين عن العالم، مقطوعي الاتصال، ويعانون بصمت لا يصل صداه إلا ببطء شديد.
ساهم تواصل العدوان الإسرائيلي والغارات الكثيفة على المباني السكنية والبنى التحتية وشبكات الاتصال في انقطاع خدمات الإنترنت الثابت والاتصالات الأرضية في محافظات قطاع غزة، كما منع الاحتلال الإسرائيلي إصلاح هذه الخطوط.
ويتسبب الاستهداف الإسرائيلي لخطوط الاتصال والتعنت في منع إصلاحها في تعميق حدة العزلة التي يعاني منها قطاع غزة أصلاً، في ظل اعتماد الغزيين بشكل أساسي على الإنترنت للتواصل ومعرفة الأخبار، خاصة بعد تدمير الطائرات الحربية كل الإذاعات المحلية. ومنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تعرضت البنى التحتية لشبكات الاتصالات والإنترنت لأضرار جسيمة نتيجة الاستهداف المباشر وغير المباشر لمحطات البث والأبراج ومولدات الطاقة. وبحسب مهندسين محليين، تعرض أكثر من 60% من الشبكة لأعطال متفاوتة، فيما فقد الاتصال بشكل كلي في بعض المناطق لأيام متتالية.
قال المهندس وسيم حمد، أحد العاملين في قطاع الاتصالات والذي يملك نقطة لتوزيع شبكات غنترنت الشوارع، لـ"العربي الجديد": "نحن في سباق يومي لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الخدمة ومواصلة العمل، لكن القصف العنيف وانقطاع الكهرباء ونفاد الوقود تعقد كل شيء. الإنترنت في غزة ليس خدمة ترفيهية، بل وسيلة حياة ونجاة، خاصة في ظل الاعتماد شبه الكامل عليه في نقل الأخبار ومعرفتها بعد قصف الإذاعات المحلية، وشل قطاع المواصلات بسبب نفاد الوقود ومنع دخوله.
جاء ذلك في وقت تحوّل التعليم في مناطق النزوح ومختلف محافظات غزة إلى دروس طارئة على الهواتف المحمولة أو عبر التطبيقات في ما يعرف بالتعليم الإلكتروني، وهو ما يتسبب في عجز آلاف الطلاب عن الوصول إلى أي مصدر معرفي أو تعليمي. وقالت الطالبة الجامعية رهف السرساوي، النازحة من الشجاعية إلى منطقة النصر وسط مدينة غزة، لـ"العربي الجديد": "كنت أراجع الدروس عبر الإنترنت قبل أن تنقطع الخدمة، أما الآن فأواجه أزمات مركبة في ظل الانقطاع التام للتيار الكهربائي والذي تغلبت عليه جزئياً عبر شحن الهاتف في نقطة شحن، لكنني لم أستطع التغلب على الانقطاع المتكرر لخدمة الإنترنت بسبب عدم وجود بدائل".
وتشعر رهف بأنها في عزلة تامة عن متابعة دروسها والتواصل مع معلميها وزميلاتها، ما يتسبب في تعميق الأزمة، وقالت: "التعليم عبر الإنترنت ليس مريحاً أو مجدياً، ولا تمكن مقارنته بالتعليم الوجاهي، لكن انعدام الخيارات حوّله إلى مصدر أساسي ووحيد".
على الصعيد الصحي، زادت التحديات مع تعذر حصول المرضى على استشارات طبية أو مواعيد عبر المنصات الطبية الرقمية في ظل اعتماد العديد من العيادات الخاصة على الإنترنت لحجز الأدوار وترتيب مواعيد المرضى. وقال الطبيب إيهاب شرف لـ"العربي الجديد": "اعتمد على الإنترنت لإرسال نتائج التحاليل وصور الأشعة للمرضى أو التواصل مع أطباء في الخارج لمتابعة بعض الحالات، وقطعه يعمّق العديد من الأزمات ومنها تلك الصحية خاصة في ظل حالة التدهور والشلل التي تعاني منها المنظومة الصحية من جراء استهداف المستشفيات ومنع دخول الأدوية والمستهلكات الطبية".
وبفعل النقص الحاد في مختلف المواد الغذائية، تعتمد غالبية أهالي قطاع غزة على المساعدات الإنسانية من خلال التسجيل وتحديث البيانات عبر الروابط، لكن انقطاع الإنترنت بات يمنعهم من متابعة التسجيل، ما يفقدهم آخر أمل في الحصول على المساعدات. ولم يسلم أصحاب العمل عن بعد من آثار هذا الانقطاع، فمع انهيار الخدمة في كثير من المناطق باتت متابعة العمل شبه مستحيلة، إذ يعتبر الإنترنت حلقة الوصل الوحيدة لاستقبال التكليفات وإرسال المواد بعد تجهيزها.
وقال مصمم الغرافيك محمد الشيخ (32 عاماً)، الذي يعمل مع شركة في الخارج، لـ"العربي الجديد": "أعتمد على عملي في توفير دخل أسرتي، خاصة بعدما دمر الاحتلال المكتب الذي كنت أعمل فيه في برج تجاري دُمّر بالكامل، وقبل انقطاع الإنترنت، كنت أعاني من سحب السيولة النقدية بفعل ارتفاع نسبة التكييش التي تجاوزت 43% من قيمة الحوالات التي تصل إلي. وتكرار انقطاع الإنترنت يهدد بفقدان مصدر دخلي بالكامل.
وفي ظل تواصل الحرب، تتعالى الدعوات محلياً ودولياً لاعتبار الإنترنت حقاً إنسانياً لا يجب المس به، خاصة في مناطق النزاعات والكوارث، لأن السكان يعتمدون عليه بشكل أساسي للتواصل والاطمئنان أو حتى معرفة الأحداث حولهم. وليس الانقطاع المتكرر للإنترنت في غزة مجرد خلل فني، بل فصل جديد من فصول الحصار والعزلة التي تحاصر أكثر من مليوني إنسان وسط حرب ضروس. وبينما تستمر الغارات والدمار، يبقى سكان القطاع محاصرين حتى في الفضاء الرقمي. لا يرون العالم ولا يراهم، وكأن الحرب سحبت آخر خيوط الضوء التي تربطهم بالحياة.

أخبار ذات صلة.
