
في لحظة تتقاطع فيها الأسئلة الملحّة حول موقع الفعل الثقافي في سياق التحولات السورية، نظّمت مؤسسة اتجاهات – ثقافة مستقلة، الخميس الفائت، يوماً بحثياً مكثفاً بعنوان "حول الممارسات الثقافية والتحوّلات الفنية في سورية"، وذلك في بيت فارحي بدمشق، ضمن النسخة التاسعة من برنامجها البحثي "أبحاث: لتعميق ثقافة المعرفة".
استضافت الفعالية سبعة باحثين وباحثات من الحاصلين على دعم البرنامج في دورته لعام 2023 – 2024، وتوزعت النقاشات على ثلاث جلسات رئيسية، أدارها كل من ميسون علي، وجمال شحيّد، وميادة حسين، وطرحت خلالها أسئلة جوهرية تتعلق بالموقع المتغيّر للثقافة السورية، وحدود أثرها في ظل واقع سياسي واجتماعي معقد.
في الجلسة الأولى التي عُقدت تحت عنوان "الممارسة الثقافية في سياق الصراع"، قُدّمت قراءتان بحثيتان لكل من هاني الطلفاح (عبر الشاشة)، وزينة قرموقه. وركّز بحث الطلفاح على تحولات المكتبة في سورية، مقدّماً سردية توثيقية لتاريخ المكتبات السورية، ومسارات تدميرها أو تهجيرها خلال سنوات الحرب، سواء كانت عامة أو خاصة أو شخصية.
وبين "المكتبة المهجورة" و"المكتبة المنفية" و"المكتبة السرية"، فتح الطلفاح باب التأمل في المعاني الرمزية والسياسية لفقدان هذا الفضاء المعرفي، مسلطاً الضوء على تحولات دور المكتبة من وعاء للمعرفة إلى رمز للمقاومة الثقافية، مختتماً بحثه بتوصيات تسعى لإعادة دمج المكتبة في النسيج الاجتماعي والسياسي، وكسر عزلتها التخصصية.
سلطت الضوء على مساحات ثقافية مهدّدة في سورية الجديدة
أما بحث الفنانة زويا قرموقة، فكان بعنوان "على طريق الحرير - الخزف السوري"، وتطرقت فيه إلى نشأة فن الخزف ومسارات تطوره وانعكاسه على النسيجَين الاجتماعي والاقتصادي، موضحةً مميزات الخزف السوري، وحضوره الخجول في أيامنا هذه، معتمداً على محاولات فردية لم تتمكن حتى الآن من تحقيق سمة عامة مشتركة.
وناقشت الفنانة العقبات التي واجهتها لإتمام بحثها، وأصعبها كان فقر المراجع، ومنه انطلقت إلى أهمية التوثيق والحاجة الماسة للتعامل مع فن الخزف بما يتناسب وعمق هذا الفن في تاريخ سورية، إضافة إلى ضرورة إعداد مكان لخزافي دمشق عوضاً عن التكية السليمانية التي سلبتهم إياها أسماء الأسد وقامت بتخريبها.
ومن الجدير ذكره هنا أن أبرز التحديات التي يواجهها فنانو هذه المهنة تتمحور حول آليات توفّر المادة الخام، والأكاسيد الملوّنة، بسبب الحصار الاقتصادي والثقافي، في وقت كانت فيه مادة الخزف في العصور الوسطى الإسلامية المادةَ الأكثر تصديراً إلى أوروبا.
في سياق الجلسة الثانية التي حملت عنوان "المدينة والذاكرة: تحولات الفضاء والسرديات الثقافية"، قدمت الباحثة ميرما الورع بحثها المعنون بـ"دُور السينما في دمشق، التجلّي المعماري للسينما السورية". استعرضت فيه مسار دور السينما في دمشق، وربطت تطورها وانحدارها بالتحولات التاريخية والاجتماعية التي شهدها المجتمع الدمشقي.
وتتبعت الباحثة في بحثها بدايات دور السينما في دمشق، مشيرةً إلى ظهور أولى هذه الدور عام 1916، ثم تناولت فترة ازدهارها بين عامي 1930 و1950، إذ بلغ عدد دور العرض ثلاثين داراً للسينما، إلّا أن هذا الازدهار لم يدم طويلاً؛ فقد أظهرت الباحثة كيف بدأت هذه الدور في الاضمحلال على نحوٍ ملحوظ بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في سورية، وأثر سياساته التي أدّت، مجتمعةً مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لها، إلى اختفاء دور السينما، وصولاً إلى واقع اليوم، إذ لا توجد في دمشق سوى سينما الأهرام الوحيدة التي لا تزال تعمل.
في الإطار ذاته للجلسة، قدّم الباحثان إياد أبو سمرة وشام العلبي بحثهما المشترك بعنوان: "أنثروبولوجيا الضوء: بين عتبة الهيتروتوبيا وتوفّر إنارة المدينة". سعى الباحثان للإجابة عن تساؤل محوري: ما هي التغيرات الوظيفية التي طرأت على الفراغات العامة، في ظل غياب الإنارة في ساعات ما بعد الغروب؟
قراءة في جدوى البحوث الفنية في زمن الاضطراب السياسي
استند البحث في إجابته إلى مبادئ التصميم العمراني ونظريات تكوين الفراغ، بالإضافة إلى أسس من علم الاجتماع، كما ربط المساحات المضاءة بمفهوم المسرح؛ إذ يغدو الفضاء المحيط بالضوء فضاءً سينوغرافياً. قدّم البحث دراسة معمقة لتكيفات الفراغات العامة مع غياب إنارة الطرقات، ووثّق التغيرات في استخدام ووظيفة هذه الفراغات ليلاً. وقد كشف البحث أن الظروف المحلية والاقتصادية السائدة قد ولّدت استخدامات وسيناريوهات مغايرة تماماً لما جرى تصميمه وتنفيذه لهذه الفراغات، ما يعكس مرونة المجتمع في التكيف مع التحديات البيئية والاقتصادية وتحويل الفضاءات بطرق غير متوقعة.
كانت الجلسة الثالثة والأخيرة تحت عنوان "السرديات الفنية والإبداعية في زمن الحرب". وشهدت هذه الجلسة تقديم بحثين للباحثتين فدوى العبود وميار مهنا.
في بحثها "الهوية في السرد الروائي: أساليب الابتكار والتجديد الفني، نماذج من الرواية اللبنانية والسورية"، سعت العبود للإجابة عن تساؤل محوري: ما هي أشكال تمظهر السؤال الهوياتي في السرد الروائي، وكيف طوّعت الرواية الشكل الفني والتقنيات السردية للتعبير عن مسألة شائكة كالهوية؟ هدف البحث إلى تحري التجديد على مستوى الخطاب الروائي في موضوع الهوية، واستكشاف الأساليب الجديدة التي اعتمدتها الرواية لتقديم هذه المسألة المعقدة.
واستندت العبود في تحليلها إلى نماذج من الأعمال الروائية التي تناولت الحرب في كل من السرديتَين اللبنانية والسورية، وقارنت الباحثة بين الروايات التي صدرت إبان الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 وتلك التي تناولت الحرب في سورية بدءاً من عام 2011، وركزت على قراءة الفضاء الروائي بكل تجلياته، من الشكل العام للرواية إلى الآليات السردية المستخدمة وتطوير الشخصيات. وبحسب المترجم جمال شحيّد، توقفت الباحثة خاصّة عند الإطار النظري لمسألة الهوية، بدءاً من الكوجيتو الديكارتي الشهير، وصولاً إلى الأفكار المعاصرة التي قدّمها أمين معلوف في كتابه "هويات قاتلة"، وربطت العبود منهجياً مسألة الهوية بحيثيات وتفاصيل تجارب الحرب المختلفة، مبرزةً التغيرات الهوياتية تحت وطأة النزاعات.
البحث الأخير لميار مهنا جاء بعنوان "الرؤى السياسية والنسوية في سينما المرأة السورية بعد الحراك"، وتطرقت مهنا فيه إلى سينما المرأة السورية، مع التركيز على الأفلام الروائية التي أخرجتها نساء سوريات في الفترة ما بين عامَي 2011 و2024. اختارت الباحثة خمسة أفلام لتبحث من خلالها في سؤال محوري: إلى أي مدى، وكيف، فتح حراك 2011 الباب أمام النساء للمشاركة في توثيق وسرد الحرب عبر رؤيتهنّ؟
استعرضت مهنا بدايات السينما في سورية، مسلطةً الضوء على دور المرأة فيها بوصفها ممثلة، ومنتجة، ومخرجة، مشيدةً بدور المرأة في السينما السورية الحديثة، فقد رأت الباحثة أن هذا الدور انتقل من مجرد التهميش إلى المساهمة الناضجة والجادة في صناعة السينما. في ختام بحثها، خاضت مهنا في مسألة الذكورة والأنوثة في الخطاب السينمائي، مجيبةً عن تساؤل كيف صاغت النساء السوريات رؤيتهنّ للحرب من خلال السينما الروائية؟ مؤكدةً أهمية المنظور النسوي في تقديم سرديات مختلفة وعميقة للواقع السوري في ظل الحرب.
وعمّقت هذه الفعالية من جدوى المواد البحثية المعروضة، عبر نقاشها المباشر وللمرة الأولى مع جمهورها المستهدف (المجتمع السوري)، خاصةً بعد سقوط نظام الأسد، ما أبرز الفروقات التي طرأت على هذه الأبحاث بعد هذا الحدث، وشرّع أبواباً لتساؤلات ترتكز على واقع جديد متغير، مما يعمّق الحاجة إلى فهم المشهد الثقافي والفكري المستقبلي في سورية.
