
بعد نحو 17 عاماً على صدور "أثر الفراشة" ورحيل صاحبه، يُحتفى بالديوان وبشاعره محمود درويش في ترجمة هولندية هي الأولى من نوعها. فقد صدرت حديثاً الترجمة الهولندية للكتاب، الذي شكّل آخر ما قدّمه درويش لقرّائه قبل وفاته.
أنجز الترجمة المستعرب الهولندي البارز ريتشارد فان ليوين، المعروف بجهوده في نقل الأدب العربي إلى الهولندية، إذ سبق أن ترجم أعمالاً لعدد من أبرز الشعراء والروائيين العرب، إضافة إلى ترجمته الكاملة لـ"ألف ليلة وليلة"، كما نقل إلى الهولندية كتابات ابن بطوطة، وأعمالاً لكتاب مثل نجيب محفوظ، يوسف إدريس، الطيب صالح، زكريا تامر، وإبراهيم الكوني، وغيرهم من أعلام السرد العربي.
ولأن اسم محمود درويش ليس غريباً على الأذن الأوروبية، شأنه في ذلك شأن أدونيس وجبران خليل جبران، بوصفهم من أبرز الشعراء العرب حضوراً في الوعي الثقافي الغربي، فقد رافقت الترجمة الهولندية لـ"أثر الفراشة" تغطيات صحافية عديدة ربطت – كالعادة – بين تجربة درويش الشعرية والقضية الفلسطينية.
هذا الربط الذي يتكرّر باستمرار، عاد ليظهر هذه المرّة على خلفية المجازر المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة منذ 20 شهراً، ما أسهم في إخراج العمل من سياقه الإبداعي الخاص داخل تجربة درويش، وحصره في سياق سياسي ضيّق يختزل غنى احتمالاته التأويلية.
وقد عزّز هذا التوجّه المترجم نفسه، ريتشارد فان ليوين، من خلال مقدّمته الموجزة للكتاب، التي لم تتجاوز استعراضاً لحياة درويش منذ ولادته حتى وفاته، مع التركيز على علاقته بالسلطة الفلسطينية، واعتباره في مرحلة ما "صوت فلسطين"، وفق تعبيره.
حُصِرَ في سياق سياسي ضيّق يختزل غنى احتمالاته التأويلية
ما زلت أذكر الحالة التي صنعها كتاب "أثر الفراشة" في المشهد الثقافي العربي عند صدوره عام 2008، ،إذ اعتبر الكثيرون أنَّ درويش تعمّد أن يكتب محاولاته الأولى ضمن قصيدة النثر، دون أن يسمّيها، خوفاً من أن يصدم الذائقة القرائية التي تعوّدت إخلاصه للتفعيلة، ومن ثم كان الخيار الأسلم من وجهة نظر درويش أن يقدّم هذه التجارب ضمن إطار أوسع مثل كلمة "يوميات" التي زينت الغلاف الأمامي لـ"أثر الفراشة".
ولعل أكثر الشعراء العرب الذين كتبوا عن الكتاب كان الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر، الذي كتبَ أكثر من مادة جادّة حول الكتاب، وكان في رأيي أوّل من كشف لعبة درويش المدسوسة بذكاء ضمن كتابه، وهي تجريبه لقصيدة النثر دون أن يتورّط في الإعلان عن ذلك. يقول ناصر: "ليس علينا، كقرّاء، أن نلتزم بما يسمي به محمود درويش كتابه. لأنّ الكتاب يعطينا الحق في اختيار تسميات أخرى، باعتبار القراءة حمّالة أوجه، كما أنّ القراءة تمنحنا، مثلما أسلفت، حق وضع النصوص على الرف الذي نرغبه. يمكنني، والحال، أن أسمي شعره شعراً ونثره قصائد نثر، لا يوميات. وفي ظنّي أنَّ درويش اقترب، في (يومياته) هذه، أكثر من أي مرّة أخرى، من قصيدة النثر بالمعنى الغربي للكلمة. أي القصيدة ذات الكتلة النثرية العريضة، التي لا تأنف من السرد والإخبار والتأمل والتداعي".
في نهاية يناير/ كانون الثاني عام 2008، وقبل نحو سبعة أشهر فقط من رحيل درويش، في التاسع من أغسطس/ آب، من العام نفسه، بدأ الشاعر الفلسطيني الراحل حديثه في حفل إطلاق كتابه الجديد آنذاك "أثر الفراشة"، والذي استضافته قاعة مسرح البلد في عمّان، بالإعلان عن عجزه عن تصنيف كتابه الجديد، وأضاف: "هذا الكتاب الذي استعصى بالنسبة لي على التعريف، فلا أعرف إن كان شعراً أم نثراً، أم نصوصاً تقف على التخوم المشتركة بين الشّعر والنثر".
مع هذه الخصوصية التي يحتلّها "أثر الفراشة" في المشروع الشعري الأكبر لشاعر في حجم درويش، كان على المترجم الاعتناء بالسياق الذي يأتي الكتاب ضمنه، لا أن يقدم بوصفه مجرد "يوميات كتبها الشاعر في السنوات الأخيرة من حياته"، أو جمل من قبيل: "في "أثر الفراشة"، يكتب محمود درويش عن الحب والفقد وألم المنفى"! كما جاء في تقديم الناشر على الغلاف الخلفي للكتاب.
يبدو أن الأمور لم تتغير كثيراً بالعودة إلى "أثر الفراشة" نفسه، بعد 17 عاماً من صدوره الأول. يقول في قصيدة "أبعد من التماهي": "أَجلسُ أمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي أن أفعل شيئاً آخر. هناك، أمام التلفزيون، أَعثُرُ على عواطفي، وأَرى ما يحدث بي ولي. الدخان يتصاعد مني. وأَمدُّ يدي المقطوعةَ لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسومٍ عديدة، فلا أَجدها ولا أهرب منها من فرط جاذبيّة الألم. أَنا المحاصَرُ من البرِّ والجوِّ والبحر واللغة. أقلعتْ آخرُ طائرةٍ من مطار بيروت ووضعتني أمام التلفزيون، لأشاهد بقيَّة موتي مع ملايين المشاهدين، لا شيء يثبت أني موجود حين أفكِّر مع ديكارت، بل حين ينهض مني القربان، الآن، في لبنان.
أَدخُلُ في التلفزيون، أنا والوحش. أَعلم أنَّ الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر. ولكني أَدمنت، ربما أكثر مما ينبغي، بُطُولَةَ المجاز: التهمني الوحشُ ولم يهضمني. وخرجتُ سالماً أكثر من مرة. كانت روحي التي طارت شَعَاعاً مني ومن بطن الوحش تسكن جسداً آخر أَخفَّ وأَقوى، لكني لا أعرف أين أنا الآن: أمام التلفزيون، أم في التلفزيون. أما القلب فإني أراه يتدحرج، ككوز صنوبر، من جبل لبناني إلى رَفَح!".
* شاعر وكاتب من مصر
