
في مشاهد لم تألفها البشرية في تاريخها الطويل على هذا الكوكب، يُعلن الاحتلال الإسرائيلي عن تخصيص نقاطٍ لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزّة، ويدعو الفلسطينيين إلى التوجّه إليها لاستلام ما تيسّر، ثمّ يمارس عمليات اصطياد فعلي، للإيقاع بهم بينما هم في طريقهم إلى تلك النقاط، أو في طريق العودة منها بما فازوا به من أغذية أو طحين، فلا يطول الوقت حتى يختلط بدمائهم. إنه أسلوب لقتل الفلسطينيين، يضاف إلى أساليب الإبادة الأخرى، تبيَّن أن دولة الاحتلال ابتدعته بالتخطيط مع مؤسّسة أميركية تدعى "مؤسّسة غزّة الإنسانية"، ويأتي هذا بعد ما يقارب سنتَين من عمليات قتل الفلسطينيين بقصف الطيران الحربي والمسيَّر والقنابل والصواريخ والقذائف والرصاص، والمترافق جميعه مع الحصار والتجويع، عبر منع دخول المساعدات العالقة على حدود قطاع غزّة، وقطع مصادر المياه.
قال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إنّ المراكز التي تديرها مؤسّسة غزّة الإنسانية تحوّلت مصائدَ موت
قبل أيّام، وتحديداً في 17 يونيو/ حزيران الجاري، وقع واحدٌ من فصول هذه السياسة الجديدة، حين أعلنت مصادر طبّية فلسطينية استشهاد 93 فلسطينياً، بينهم 63 من طالبي المساعدات الإنسانية الذين قضوا بفعل الرصاص والقصف الإسرائيلي، الذي طاولهم في أثناء توجّههم أو عودتهم من نقطة توزيع مساعدات في رفح، كان الجيش الإسرائيلي قد حدّدها مسبقاً. ويمكن تصنيف الحادثة مجزرةً فعليةً، ترقى (والحوادث المماثلة التي سبقتها) إلى جريمة الإبادة الجماعية التي بات التجويع أحد وسائلها، لقتل أكبر عدد ممكن ممّن تبقّى من أبناء غزّة، بعدما نجوا صدفةً من القصف الإسرائيلي المستمرّ منذ 7 أكتوبر (2023).
وإذا كان الفلسطينيون قد أطلقوا على مراكز توزيع المساعدات تسمية "مراكز توزيع الموت"، لأنّها باتت مصائد هدفها قتلهم، فإنّ وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أكّدت هذه الحقيقة، حين ذكرت في بيان لها قبل أيام: "أنّ الجوعى واليائسين يُقتلون في غزّة أثناء محاولتهم تأمين الطعام لعائلاتهم". ولم يتأخّر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عن القول إنّ المراكز التي تديرها مؤسّسة غزّة الإنسانية تحوّلت مصائدَ موت، واتّهم علناً هذه المؤسّسة بأنها "شريك في آلة القتل والتجويع الإسرائيلية ويجب محاسبتها"، وأضاف المرصد في بيان أصدره في 16 يونيو الجاري: "أنّ استمرار عمل مؤسّسة غزّة الإنسانية، رغم مقتل 335 مدنياً، هو مشاركة في جرائم الحرب". أمّا الماء فله قصّة هي قصّة العذابات اليومية، إذ قال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان: "لا يمكن توفير المياه في غزّة من دون وقودٍ، ما يحرم الناس من أبسط وسائل عيشهم".
إنه الجوع، لا يمكنك أن تشعر بثقله، ولا بكلّ المعاني المخيفة التي تحملها حروفه الخمسة، إلا إذا سمعتها من فم ابن غزّة المراسل محمد هنية: "الجوع، ليس كما يظنّه بعضهم نقصاً في الخضار أو الفواكه، بل هو أن تنظر في عيون أطفالك ونسائك وشيوخك، وربّما أيتامك، ولا تملك لهم رغيفاً يسدّ الرمق. هو ألّا تجد الطحين، فتقف حائراً لا تدري أين تزيح وجهك عنهم، أين تخبّئ قهرك، وأيّ باب تطرقه ولا باب يُفتح". هذا الجوع وهذا التجويع غير المسبوق، الذي وصل حدّ الإبادة الجماعية، ربّما هو ما دفع دولاً وشعوباً في الغرب لكي تغيّر مواقفها ممّا يحصل في غزّة، وتسمّي الأمور بمسمّياتها. وتطوّر الأمر حتى بتنا أمام ما سمّاه بعضهم في الغرب "الانفجار الإنساني"، الذي ظهر بأشكال كثيرة منها المظاهرات الأسبوعية في عواصم ومدن غربية، التي فاق عدد المتظاهرين فيها (في لندن وغيرها) مليون مشارك، ممّن قالوا إن استمرار الصمت مشاركة في الإبادة، كما ظهر بعودة فكرة مراكب كسر الحصار، فجاء مركب مادلين، الذي حمل الناشطة السويدية غريتا تونبرغ ورفاقها، والذي رأت فيه دولة الاحتلال تهديداً وجودياً لها، بعدما تابع الملايين المسار الذي شقّه، والشجاعة التي بدا عليها طاقم المركب، فقرصنَتْه حين بات على مشارف غزّة.
"يبدع" الاحتلال في أساليب قتل الفلسطينيين، فيقول لمن يراقب المجزرة ستعتادون العرض
وإزاء هذا الانفجار الإنساني في الغرب، أُفرغت جُعَب قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي من مبرّرات القتل، فكان عليها اختراع مشهد يغيّر الصورة، بل يحرفها، فلربّما تغيّرت معها مواقف الشعوب وخَفَت الحسّ الإنساني لديها. إنه مشهد الاصطياد الهوليودي المشوّق، الذي يطلب المزيد من مشاهد الصيد والاقتناص وصيحات التشجيع، للإجهاز على الضحيّة. ولا يكتمل المشهد الهوليودي، ولا تنتشر الصورة، إلّا بلمسة أميركية، وجدت ضالّتها في فريق "مؤسّسة غزّة الإنسانية"، مشبوهة التأسيس والأهداف، وكانت فكرة الإذلال من أجل الحصول على قليل من الطحين المدمّى، وتصوير الأمر كأنّه فيلم سينمائي لا يستوجب التعاطف مع أبطاله. في المشهد تجميع للسكّان في نقطة توزيع أُعدَّت بعناية، يقف الجائعون خلف حاجز يفصل بينهم وبين المساعدات والموزّعين، ثمّ تُعطى إشارة البدء للانطلاق نحو نقطة الاستلام. وإذا لم يتدافع طالبوا المساعدات، ولم يدوسوا بعضهم فيقتلوا الضعاف منهم، تتكفّل رصاصات الجنود بإحداث الهرج، فتسجّل مشاهد التدافع وهروب الناس بما أمكنهم حمله، ولا ننسى تصوير الغبار المتطاير، وكأنّ الموقع أرض معركة تجول فيها الخيول.
وماذا بعد؟ ما الذي ينتظر الفلسطينيين أيضاً من أفعال التقتيل والإذلال أكثر من هذا؟ وإلى أين ستودي هذه السياسات بهم؟... لحلّ مشكلة الجوع قالت "أونروا" إنّه لا مناص من إعادة العمل بنظام الأمم المتحدة لتوزيع المساعدات، بدلاً من الطريقة الحالية التي تتسبّب في القتل. ولكن ماذا عن الاحتلال والحصار، وكيف سيوقَف هذا القتل؟... في كلّ يوم "يبدع" فيه الاحتلال الإسرائيلي في أساليب تقتيل الفلسطينيين عمداً، وعلى نحوٍ ممنهج، تشعر أنّه يقول لكلّ من يراقب المجزرة على الهواء مباشرةً: سنستمرّ في هذا وسنجبركم على الصمت وستصابون بالشلل، ونفقدكم القدرة على الفعل لنحوِّلكم في النهاية متفرّجين، تعتادون العرض الذي نمارس فيه عمليات الإبادة الجماعية أمامكم، فلا تعودوا (وغيركم) تطالبون بأيّ حلّ.
