
أخيراً، حقّق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مبتغاه وهاجم إيران، دافعاً الولايات المتحدة إلى الاصطفاف معه، وفي ذلك تأكيد على أمرٍ من اثنين. الأول، أن منطق بقاء النظام نظاماً، بعد موجة اغتيالات طاولت صقوره العسكرية في الحرس الثوري والجيش الإيراني، لن يتمّ ما لم توافق طهران على شروط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الملفّ النووي. ومنشأة فوردو هنا مجرّد وسيلة تفاوضية أكثر ممّا هي هدف عسكري استراتيجي يلوّح ترامب مراراً بضربه بأكبر القنابل الأميركية. الثاني، أن انهيار النظام بهجوم خارجي أو بحراكٍ داخلي يفتح الأبواب أمام شتّى الاحتمالات، قد يكون أقلّها ضرراً نجاح أيّ سلطة انتقالية في إمساك الأرض سريعاً، في حال وُجدت مثل تلك السلطة. أمّا الاحتمالات الأخرى، فلا تتعلّق بسيادة إيران ووحدة أراضيها، بقدر ما ترتبط بمدى استعداد الدول المجاورة لإيران لاستغلال هذه الظرفية للتحرّك، سواء انفصاليو إقليم بلوشستان في باكستان، أو حتى أفغانستان، التي قد تعدّل الوضعية القائمة بين البلدَين على نهر هلمند. كذلك، فإن العرقيات والأقليات في إيران ستتحدّث بصوتٍ عالٍ، سواء لحماية امتيازات اكتسبتها مع الثورة الإيرانية أو للحصول عليها في أيّ عهد جديد.
ومع أن من المبكّر طرح أسئلة أو فرضيات تتعلّق بمستقبل النظام الإيراني طالما أن التفاوض مع الأميركيين يتمّ تحت النار، غير أن مسار التفاوض يُظهر أن إيران لا تملك أوراقاً كثيرة، حتى لو كانت أوراقاً إقليمية في العراق واليمن ولبنان، فطالما أن دولاً (مثل الصين وروسيا) تنأى بنفسها عن الانخراط المباشر في الحرب، فإن إيران بمفردها حتى إشعار آخر، والأوراق الإقليمية أضعف من أن تفرض الحلول، لأن أيّ حراك لها داعم لإيران سيستولد حروباً داخليةً ستنتهي بهزيمة هذه الأوراق ـ الفصائل. والأكثر أهميةً أنها، وفي سياق المفاوضات مع الأميركيين، لا تزال مقتنعةً بدور "الشيطان الأكبر" في لجم "الشيطان الأصغر"، بل إن وزير خارجيتها عبّاس عراقجي شرح مجريات القصف الإيراني في محيط مستشفى سوروكا الإسرائيلي في بئر السبع، الخميس الماضي. في ذلك نقطة جوهرية، لأنه وفي تفسيره تجنيب إيران المدنيين الإسرائيليين نيران الصواريخ، يُظهر أن الموقف الإيراني الرسمي يبتعد قليلاً عن مبدأ "إزالة إسرائيل" من الشرق الأوسط. يعلم الإيرانيون أن الطريق إلى "قلب" الأميركيين يبدأ من هنا، أي في الاعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود في الشرق الأوسط، ولو أن الأمر غير ظاهر حالياً، لأن لا صوت يعلو على صوت الصواريخ والقصف.
الأكيد أن لا حرب عالميةً ستندلع طالما أن حصص الجميع ستكون مؤمّنة. في سورية مثلاً، كان الروسي الداعم الأساس لنظام الأسد المخلوع، لكنّه حالياً شارف على تدشين علاقة جديدة مع الحكم السوري بقيادة أحمد الشرع. ولا شيء يمنع من أن شيئاً مماثلاً ستحصل عليه موسكو وبكين في حال سقوط النظام في طهران. أساساً تصرّف الروس والصينيون على حياء مع الإيرانيين، سواء في الاتفاقيات الثنائية الموقّعة بين طهران وموسكو أو طهران وبكين، أو حتى في المنتديات الدولية لجهة الضغط الجدّي لرفع العقوبات عن إيران. وعليه، فإن روسيا والصين لن تكونا بعيدتين من أيّ تسوية مستقبلية في إيران.
الأكيد أن الأمور لن تعود إلى ما قبل 13 يونيو/ حزيران الحالي، بإدراك عواصم القرار كلّها، وهو ما يعني انعكاساً لدى دول الشرق الأوسط وسلوكها السياسي، إذ إنه في حال استمر النظام الإيراني، فسيكون بموجب اتفاق مع الأميركيين، وإذا انتهى فسيكون لعدم حصول الاتفاق. في الحالتَين، سينشأ واقع مختلف في الشرق الأوسط، ولن تنفع معه شعارات المراحل الماضية، بل سيتوجّب على دول الإقليم، مجتمعةً أو فرادى، التمعّن في ما حصل، وسريعاً. الجنون في الشرق الأوسط أكبر من توقّعه أو حساب تصرّفاته، والعقلانية لا مكان لها في سنواتنا الحالية.
