المصالح أوَّلاً: أوكرانيا مقابل إيران
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

بعد أن اتَّجهت "قافلة الصمود" لشقّ حصار غزة بصدرٍ واثقٍ، كسفينة نوح تحمل شتاتَ الكرامة العربية، انقضَّ الاحتلال الإسرائيلي على أعشاشِ طهران في ظلام الخيانة، وكأنَّما أراد أن يُطفئَ شمعة المقاومة بنَفَسٍ واحدٍ، فاغتال علماء النُّبوغ النوويِّ، وهدَّد رأس النظام في حركة تشي بمراوغة دولية كُبرى.

وفي الوقت ذاته، مزَّق الدبّ الروسي جسدَ العاصمة الأوكرانية، مُخلِّفاً 44 قتيلاً و14 جريحاً، وكأنَّها إشارة مُبرمجة من قِبل سادة العالم القديم: أميركا تتنازل عن كييف مقابل تنازل روسيا عن طهران. اهتزَّت عروش الأمان في الكيان الصهيوني تحت وابل صواريخ إيرانية تُجسِّد سقوط أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وتهاوي الجبروت العسكري كتمثال من رمال، تاركاً وراءه بورصة تترنَّح، وسياحة تذوي، وعملة تغرق في منحدر مالي.

فقد تهاوت قيمة الشيكل الإسرائيلي بنسبة تتجاوز 5% خلال 24 ساعة في تعاملات يوم 13 يونيو/ حزيران الحالي، وتوقفت حركة الطيران، وتعرضت الحياة الاقتصادية للشلل التام.

وإذا كانت الصدمة المالية قد تجلَّت في انهيار الشيكل وشلل الأسواق، فإنَّ فاتورة المواجهة العسكرية كشفت عن حجمِ الكارثة: فقد قدَّرت صحيفة ذا ماركر الإسرائيلية تكلفة التصدِّي للهجوم بمليار دولار، حيث تبلغ تكلفة ساعة الطيران الواحدة لمقاتلات إف-35 نحو 35 ألف دولار، وتشمل التكاليف تشغيل أكثر من 140 طائرة مقاتلة.

ويتجسَّد المشهد الأكثر مأساوية في الصهاينة الذين يدفعون آلاف الدولارات للهرب في قوارب بشكل غير شرعي نحو قبرص واليونان، في هجرة معكوسة تفضحُ الخديعة الكبرى، بعد أن أُغلقت في وجوهِهم المطارات وهُرِّبت الطائرات. في الوقت الذي تَهشَّمت فيه أسطورة الحصار الأمني فوق أرض العدوان، سالت دماء العلماء الإيرانيين على مذبح الخيانة. في الواقع، ظلَّ الاغتيال السياسي سلاحاً اقتصادياً مبطناً. فاستهداف العقول النووية الإيرانية لم يكن ضربة عسكرية فحسب، بل ضربة مزدوجة للاقتصاد الإيراني تعطِّل برنامج الطاقة النووية السلمية الذي تعوِّل عليه طهران لتجاوز العقوبات، وتعزِّز حلقة الاستنزاف.

فقد انهار الريال الإيراني بنسبة 10% أمام الدولار و12% مقابل اليورو خلال ساعات من إعلان الاغتيالات، وتصاعدت أزمة الوقود مع عودة طوابير توزيع البنزين في طهران، مما يزيد الضغوط على الاقتصاد المنهك.

واتَّخذت الحكومة إجراءات عاجلة لكبح جماح الأزمة الاقتصادية المعقَّدة، منها تخصيص مليار دولار من العملة الصعبة لضمان واردات السلع الاستهلاكية الحيوية، وفق بيان لمحافظ البنك المركزي محمد رضا فرزين، نقله التلفزيون الرسمي الإيراني.

في الواقع، تتَّسع دائرة المواجهة بين إيران وإسرائيل لتتجاوز ساحات القتال التقليدية، حيث تتصاعد وتيرة الهجمات المتبادلة على البنى التحتية والمنشآت الحيوية لكلا البلدين. تُحوّل هذه التطوُّرات الصراع تدريجياً نحو جبهة استنزاف اقتصادي بالغة الخطورة، تُعَدّ بمثابة حرب موازية بآليات مختلفة. فأضحت الضربات على المنشآت الاستراتيجية وسيلة لاستهداف مرتكزات القوّة الوطنية، في مؤشِّر على تحوُّل مراكز الثقل في الصراع من الميدان العسكري المباشر إلى ميادين التأثير بالاستقرار المالي والاقتصادي، مما يضاعف من تداعيات المواجهة وأبعادها المعقَّدة.

وفي أعقاب الضربات الإسرائيلية على مواقع عسكرية ونووية إيرانية ارتفعت أسعار خام برنت بنسبة تصل إلى 13%، لتتجاوز 75.93 دولاراً للبرميل بعد هجوم إسرائيلي على منشآت نووية إيرانية، وتشير تقديرات بنك جي بي مورغان إلى إمكانية ارتفاع الأسعار تدريجياً نحو 90 دولاراً، بل وقد تتخطَّى 120 دولاراً في حال استهداف وتعطيل الموانئ الإيرانية الرئيسية.

كما يظلّ مضيق هرمز، الذي يعبره 30% من صادرات النفط البحرية العالمية و20% من الغاز المسال، بؤرة القلق الأبرز، إذ يهدِّد أي تصعيد بإثارة مخاوف جدِّية حول إغلاقه، وهو سيناريو بالغ الخطورة رغم تعقيد تنفيذه، حيث يؤكِّد التاريخ أنّ مجرَّد التهديد بإغلاق المضيق كفيل بإثارة اضطرابات السوق ودفع الأسعار إلى مستويات قياسية. من ناحية أخرى، مشهد القصف الروسي المُكثَّف على أوكرانيا في الساعات الأولى من يوم 17 يونيو الحالي لم يكن صدفة عسكرية بحتة، بل هو إعلان عن صفقة جيوسياسية مُظلمة، حيث يُتوقَّع انحسار الدعم الأميركي التدريجي لأوكرانيا، مقابل تراخٍ روسي محسوب قد يسمح بترك إيران فريسة لضربات أميركية-إسرائيلية مُحتملة، وتبدو هذه المعادلة الصامتة من وجهة نظر البعض كأنها مقايضة مصالح بين القوى الكبرى، تُدار خلف ستار الصراعات الإقليمية، وتُعيد تشكيل توازنات النفوذ في مسارح الأزمات الدولية وفق حسابات القوّة والمصلحة.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوّة هنا: هل تتضمَّن هذه المقايضة اغتيال المرشد الإيراني علي خامنئي لاجتثاث النظام الإيراني من جذوره؟ في تصريحٍ يستند إلى غطاء دبلوماسي أميركي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال مقابلة حصرية لشبكة "إي بي سي نيوز" الأميركية عدم استبعاده اغتيال المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، معتبراً أنّ هذه الخطوة قد تمثِّل "حلاً جذرياً" لتسوية الصراع مع طهران.

جاء هذا التصريح في ظلّ دعم أميركي واضح وغير محدود، خصوصاً من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ممّا يُفسِّر جرأة الخطاب الإسرائيلي. تحمل هذه التصريحات دلالاتٍ خطيرة لا تُقارن إلا بحادثة اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي عهد النمسا والمجر، عام 1914 التي أشعلت الحرب العالمية الأولى، حيث يُدرك المراقبون أنّ استهداف رمزٍ بهذا الثقل السياسي والديني لن يُنتج سوى تصعيدٍ كارثي، بل قد يُشعل حرباً إقليمية شاملة تتداعى آثارها عالمياً.

خلاصة القول، يسعى الكيان الصهيوني من خلال ضرباته الأخيرة ضدّ إيران إلى تحويل الأنظار عن قافلة الصمود، لإجهاضِ أي صحوة عربية وعالمية قد تُهدِّدُ مشاريعَه التوسُّعية في المنطقة. يتَّسق هذا المسار مع النمط التاريخي للكيان في استهداف أنظمة الدول المجاورة، حيث يُعوِّل الآن، بدعمٍ أميركي واضح، على تفكيك النظام الإيراني، وتحويل إيران إلى ليبيا جديدة باعتبار ذلك حلاً استراتيجياً يُنهي التحدِّيات الجيوسياسية المطروحة أمامه.

ما يحدث ليس مجرَّدَ صراع بين القوى الكبرى، بل هو ولادة عسيرة لعالمٍ جديدٍ تُعادُ كتابة قوانينِه على أنقاضِ الدماء، ويبقى السؤال المصيريّ: هل نخرج من هذه الأتونِ بجمرة دمارٍ، أم ببذورِ نهضة؟ وتكمنُ الإجابة في يقظة حُكَّام المنطقة العربية قبل شعوبها. فسقوطُ إيران -إن حدث- لن يكونَ نهاية المطاف، بل نقطة تحوُّلٍ ستجرُّ وراءها كلَّ من تقاعس عن ركوب قطار التطبيع، أو تردَّد في دعم مشروع "إسرائيل الكبرى" من الفرات إلى النيل.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية