
ينطلق ديفيد كروننبرغ (1943)، في جديده "الأكفان" (2024)، من حزن دفين ينتابه عقب رحيل زوجته، فينسج شخصية كارش (فنسان كاسيل)، رجل أعمال ينشئ شركة توفر تكنولوجيا تمكن المشتركين من الحصول على صورة مباشرة، وثلاثية الأبعاد، لأجساد أقربائهم بعد وفاتهم، بفضل كاميرات مدمجة في قبور عمودية. هذا نوع من حداد على زوجته بيكا (ديان كروغر).
كعادته، يمزج كروننبرغ، المختصّ بـ"رعب الأجساد"، أفكاراً عن تكنولوجيا المستقبل بمخيال يُعبّر عن فيزيائية الجسد والهوس بفكرة الفناء.
يسلك "الأكفان"، المعروض أولاً في مسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، تنويعاً على فكرة الافتتان بالأجساد المجروحة، وإيروتيكية الندوب الناجمة عن الحوادث، صانعة "اصطدام" (1996)، المثير لجدل وانقسام. غير أنّه، هنا، يدفعها بعيداً ليخلق تساؤلات فلسفية، ربما تراوده بحكم طبيعة السرد الذاتي عن قدرة الفن على رأب جسور الفقدان، واستحضار أرواح راحلين، ببعث صورة رقمية لأجسادهم. شعورٌ تُعبّر عنه، ببراعة، مشاهد تنتفي فيها الحدود بين الواقع والحلم، ينجح الجهبذ الكندي في خلقها، بفضل إضاءة خلاقة، واستغلال مرهف للمؤثرات الخاصة.
بعد عرضه في برنامج "عروض غالا"، في الدورة الـ21 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، أُجري هذا الحوار مع كروننبرغ، الحاصل أيضاً على "نجمة فخرية" عن مجمل مساره. حوار خُصّص لمناقشة "الأكفان"، وتناول نظرته إلى ثيمات عَبَرت منجزه، وفي مقدمتها السوداوية والعلاقة بالعلوم، وتصوّر عمل العقل البشري، وتفاصيل أخرى.
(*) لماذا اخترت فانسان كاسيل للشخصية الرئيسية؟ كيف أعددته ليكون بديلك، نوعاً ما؟
لم أختره بسبب شعره فقط. أعلم أنّ الناس ما زالوا لا يُصدّقون هذا. إنّه لا يكاد يُشبهني في شيء، حقاً. لكنّ الأمر يتعلق جزئياً بشعره، وجزئياً بطريقة تمثيله، لأنّه يعرف زوجتي كارولين، بحكم اشتغاله معي مرّتين سابقاً. لذا، شعر أنّي أنا أفضل نموذج يستوحي منه الشخصية. راقب طريقة حركتي وكلامي، المختلفة تماماً عن الطريقة المعتادة لكلامه. هو يتكلّم بسرعة كبيرة عادةً، ويلعب دور الرجل القوي، أو عضو عصابة، وهذا لا يمثّلني في شيء. أعتبر أنّ أساس خلق شخصيته مزيجٌ من المصادفة ومهارة الممثل.
(*) ماذا عن اختيار ديان كروغر وعلاقته بزوجتك الراحلة؟
إنّها لا تشبه زوجتي إطلاقاً، رغم أنّهما جميلتان جداً. ديان استلهمت دورها من السيناريو. النص، وبصفة أدقّ الحوار، يتيح للممثل تجسيد الشخصية. صحيح أنّ هناك شخصيات مكتوبة تعتمد غالباً على الحركة. في الواقع، قال فانسان إنّ هذا الفيلم "الأكثر حوارات" بين الأفلام كلّها التي مثّل فيها. عادةً، يؤدّي دور شخص لا يتحدث كثيراً. كان ذلك تحدّياً كبيراً له. ديان لا تعرف زوجتي، لكنّها استطاعت فهمها اعتماداً على النص. السيناريو دقيقٌ للغاية. قالت إنّها استمتعت كثيراً بتأدية دور تيري، أخت الزوجة الراحلة ذات الشخصية الشريرة قليلاً.
(*) "الأكفان" مُثير للغاية، ومُقلق. ذكّرني بـ"الموت على المباشر (La Mort En Direct)" لبرتران تافرنييه.
أعرف أفلام تافيرنييه. لكنّي لستُ متأكّداً أنّي شاهدت هذا الفيلم.
(*) هناك فرق رئيسي مع فيلمك يتجلّى في أنّ صحافياً تلفزيونياً يتجسّس على امرأة تحتضر، بدل أنْ تكون ميتة، بزرع كاميرا في عينه.
حسناً. هذا تنبّؤ جيد.
(*) قال تافيرنييه إنّ فيلمه إدانة للتلصّص. ألديك هذه النيّة أيضاً؟
كلا. لا أدين كثيراً في أفلامي. أقصد أنّي لا أعتبر نفسي مرشداً لنوع معيّن من السلوك والأخلاق. فقط أهتمّ بالأشياء التي يفعلها الناس. أحياناً تكون غريبة جداً، وأحياناً لا. أنا مُراقِب، ولا أعتبر أنّي ألَقِّن أي شيء. لا أشعر أنّ لدي القدرة على توجيه الناس في حياتهم. فقط أقول: "حسناً، هذا مثير جداً للاهتمام بالنسبة إلي، وغريب جداً. سأريكم إياه، وستحدّدون بأنفسكم ما رأيكم فيه".
(*) لكن، ألا تعتبر أنّ هناك شيئاً من التلصص في مراقبة جثة متحلّلة؟
ليس إذا كان الجسم المتحلّل لشخص تحبّه. في هذه الحالة، لا يكون الأمر تطفّلاً. تماماً كما لو كنتَ تنظر إلى شخص تحبّه، زوجتك أو زوجك، وهو يستحمّ. هذا ليس تطفّلاً. إنّه يُعبّر عن حبّ. هذا مبدأ المشروع منذ البداية.
هناك أفلام جيدة جداً عن التلصص. أنا متأكدٌ أنّك تعرف بعضها. إنّها دراسات مثيرة للاهتمام. لماذا يهتمّ شخص بالبقاء على مسافة، لكنّه يراقب وفق فكرة عن السيطرة يتبنّاها في أعماقه؟ لا أعتقد أنّ هذا موضوع فيلمي. بتصوّري، يعبّر "الأكفان" عن فكرة استمرار الصلة مع شخص تحبّه بعد أنْ يموت بطريقة فيزيائية.
(*) قمتَ بعمل رائع في إضاءة الفيلم، خاصة في المشاهد الإيروتيكية المثيرة، مع إضاءة خلفية لجسد كروغر. مُهمّ رؤية الأجساد مع الإضاءة الخلفية لتحقيق شعور بين الواقع والحلم. كيف عملت على هذا الجانب مع مدير التصوير دَغلاس كو؟
اشتغلت مع مدير تصوير جيّد طبعاً. لديه مسؤول جيّد عن الإضاءة، نطلق عليه Gaffer. تحدّثنا جميعاً عن ذلك بمشاركة مصمّم الإنتاج. الأمر لا يقتصر عليّ فقط. إنّها مسألة تتعلّق بالعثور على شيء يشتغل جيّداً، يستدعي المؤثرات الخاصة أيضاً. هناك رسومات حاسوبية كثيرة دخلت في الحسبان. أعلم أنّ الناس يتحدّثون عن أجساد حقيقية عارية، ويكثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي، وما إلى ذلك، اليوم. نحن نستخدم الذكاء الاصطناعي منذ سنوات في عمليات ما بعد الإنتاج. الجسد الفيزيائي مهمّ. لكنْ، أحياناً، يتعيّن عليك خلق جسد من لا شيء، وهذا يعني استعمال الكمبيوتر. لذا، أُنشئت الأجساد رقمياً لـ"الأكفان"، الذي يبدأ بدَيان وهي تطفو نوعاً ما. هذه صورة أُنشئت بالكمبيوتر. من أجل ذلك، مُسح جسدها رقمياً بالكامل.
المشاهد التي تحدّثت عنها مزيج أشياء عدّة، منها نوع من الإضاءة الحاسوبية يختلف عن الإضاءة المادية. هذه كلّها أدوات رائعة أصبحت بحوزتنا اليوم.
(*) هل ساعدك هذا الفيلم حقاً في التغلّب على حزنك؟
لا، إطلاقاً. الأمر لا يسير هكذا. لم أتوقّع أنْ يسير هكذا. إنه نقاش مع نفسي عن الحزن. بالنسبة إلي، الفن ليس علاجاً أبداً. إذا أردْتَ علاجاً، فافعلْ شيئاً آخر. أحياناً، يُستخدم الفن في العلاج، لكنّ إبداع الفن ليس علاجاً، بحسب تجربتي.
(*) ما ردّة فعلك عندما علمت أنّك ستُكرّم بمراكش؟
في البداية، شعرت بالسعادة، فالمهرجان مهتمّ بي. لكنّي أعلم أنّ المهرجانات تبتكر غالباً أشياء، كجائزة فخرية أو تكريم، لإثارة حماسةٍ واهتمامٍ إعلامي. لذا، لم أكن متأكّداً ما إذا كان الأمر مجرّد حدث، أم أنّه نابع من الشغف بعملي. هذه أشياء تواجهك في هذا الميدان. لكنْ، بعد ذلك، أدركت أنّ الأمر جادٌّ حقاً، وأنّهم متحمّسون لوجودي هنا، ومنحي هذه الجائزة، وأنّ عملي محلّ تقدير كبير لديهم. عندها، بدأ الأمر يُصبح مثيراً وممتعاً.
(*) تحدّثْتَ مراراً عن الحظر الثقافي والقيود التي يمكن أنْ نضعها على أنفسنا. في مسيرتك المهنية، هل فكرت يوماً أنّك ستكون في المغرب، في بلدٍ عربي، لتتلقّى تكريماً عن مجمل أفلامك؟
لا. أول مرة جئت فيها إلى أوروبا كانت في الستينيات. أبعد مكان وصلت إليه في الشرق كان إسطنبول. كنت متأكداً أنّي سأزور شمال أفريقيا. أحضرت معي كتاباً عن كيفية تعلّم اللغة العربية، لا أزال أحتفظ به إلى اليوم. إنّه قديم جداً الآن، ربما يبلغ عمره 50 عاماً. حينها، كي تأتي إلى شمال أفريقيا، عليك أن تأخذ حقنة ضد الحمى الصفراء. أخذتها، ولا تزال لديّ بطاقة صغيرة تُثبت ذلك. لم أفكر في حصولي على جوائز، لأنّي لم أصنع سوى أفلام قصيرة قليلة، في ذاك الوقت. كنت أفكّر في أنّي سأصل في نهاية المطاف إلى المغرب.
