إيران والمعركة الفاصلة
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

هي ليست الحرب الأولى التي تخوضها إيران، منذ ثورتها على نظام الشاه، وتبنّي نظامها مبدأ ولاية الفقيه، الذي هو بمنزلة نائب الإمام المهدي، صاحب الزمان المعصوم الغائب، الذي سيمهّد الطريق لعودته المنتظرة. بعض الحروب التي خاضتها إيران كانت مباشرةً، كما في حربها المبكّرة ضدّ التمرّد الكردي غداة انتصار الثورة عام 1979، والحرب العراقية الإيرانية التي امتدّت ثماني سنوات (1980 - 1988)، وخلّفتْ نحو مليون قتيل من الطرفَين، وبعضها غير مباشرة، كما في مشاركتها في الدفاع عن نظام بشّار الأسد في سورية، بزجّ وحدات من الحرس الثوري، وفرق وكتائب الزينبيين والفاطميين (من الشيعة الأفغان)، وحزب الله، والحشد الشعبي وفصائل النجباء في العراق، وغيرها، فضلاً عن دعمه الكامل الحوثيين في اليمن، الذين عُرفوا في القاموس السياسي بحلفاء إيران أو أذرعها في المنطقة.

هذه الحرب تتطلّب استراتيجيةً إيرانيةً مضادّة لإيلام العدو، وجعل هذه الحرب مكلفةً بالنسبة إليه على المديَين المتوسط والطويل

وبعيداً من الشعارات، يُلاحَظ أن تلك الحروب كلّها تنبع من الطيف المذهبي ذاته، الذي لم تستطع السياسة الإيرانية، ولا شعارات تصدير الثورة الإسلامية وامتدادها، تجاوزه إلى المدى الإسلامي الأوسع. وبذلك، أصبحت طهران مركزاً يدور حوله حلفاء يتماهون مع سياساته، وينصاعون لمبدأ ولاية الفقيه، بشكل يذكّرنا بسياسات الاتحاد السوفييتي مع الأحزاب والدول التي كانت تدور في فلكه خلال سنوات الحرب الباردة، يحدوها ولاؤها الأيديولوجي. وقد أدّى تداخل الولاء الديني مع المواقف السياسية، وأولويات المصالح بين المركز والأطراف، إلى سلسلة أخطاءٍ في تقدير الموقف، لعلّ أهمها العجز عن إقامة تحالفات أوسع مع تيّارات مختلفة عن الطيف المذهبي، على نحو قاد إلى انقسام في الصف الإسلامي والوطني، فضلاً عن أخطاء استراتيجية تمثّلت في التورّط بالحرب السورية، وعدم استخدام حزب الله قدراته الردعية في وجه العدوان الصهيوني في معركة طوفان الأقصى، بذريعة أن توسيع قواعد الاشتباك ما هو إلا فخّ يستهدف جرّ إيران إلى الحرب. وهو تقدير الموقف الذي أدّى إلى توجيه ضربات كبيرة إلى الحزب في الجبهة اللبنانية، ومن ثمّ إخراجه من المعركة، وأدّى لاحقاً إلى إخراج الحشد الشعبي في العراق، ودفعه إلى الامتناع عن المشاركة في إسناد غزّة متعللاً بالذرائع ذاتها، تحت ضغط شعبي وحكومي وأميركي. في حين ظلّ اليمن جبهة الإسناد الوحيدة الفاعلة ضمن المحور. لكن، وضمن هذا السياق، فمن المرجح في حال تصاعد الحرب الجارية أن تعود هذه الأذرع إلى النشاط، وتشتعل جبهات جديدة بمستويات متباينة، على نحو سيفرض على الجيش الإسرائيلي خوض المعركة في أكثر من جبهة، بما فيها لبنان والعراق.
إيران دولة كبيرة، تقارب في مساحتها مساحة أوروبا الغربية كلّها، ويزيد عدد سكّانها على 90 مليون نسمة، ولديها قدرات اقتصادية كبيرة، مكّنتها من الصمود في هذه الحروب وتمويلها، ومواجهة المقاطعة والعقوبات التي تعرّضت لها (ولا تزال)، وهي معتادة على الحروب الممتدة والطويلة، وتمزج عقيدتها القتالية ما بين الإرثين الإسلامي الشيعي والقومي الفارسي، وتختلط فيها معاني الجهاد والشهادة مع الدفاع عن الوطن الإيراني. لكن هذه الميزات البشرية والجغرافية والاقتصادية، التي تمنحها تفوّقاً استراتيجياً في معركة طويلة مع إسرائيل، وقدرة أعلى على الصبر والتحمّل، تشوبها نقطة ضعف أساسية، بعد خروج حزب الله من المعركة، وانسحاب الحرس الثوري من سورية، هي انعدام الحدود المشتركة بينها وبين الكيان تتيح لها الاشتباك البرّي واستغلال نقاط تفوّقها، فالمعركة الحالية ترتكز على القصف الجوّي والصاروخي، في ظلّ تفوّق جوّي إسرائيلي يسعى إلى تدمير المنشآت النووية، والقدرات العسكرية والاقتصادية، والبنى التحتية، بهدف حمل إيران على الاستسلام. وهو ما يتطلّب استراتيجيةً مضادّة لإيلام العدو، وجعل هذه الحرب مكلفةً بالنسبة إليه على المديَين المتوسط والطويل.
ثمّة سؤال متكرّر حول التدخّل الأميركي في هذه الحرب، مردّه عدم إدراك ماهية الحروب وطبيعتها؛ فالحرب ليست استخداماً للأدوات القتالية فحسب، وإنما تندرج ضمنها الكلمة، والضغط الاقتصادي، والحصار، والعقوبات، والضغوط السياسية، وتزويد الخصم بمقدرات عسكرية واقتصادية، ودعم سياسي يمكّنه من مواصلة الحرب. وفي هذا الإطار، نلاحظ إلغاء الولايات المتحدة اتفاقها النووي مع إيران خلال ولاية إدارة دونالد ترامب الأولى، واستمرار العقوبات الاقتصادية على طهران في عهد جو بايدن، وتزويد إسرائيل بالأسلحة والمعلومات الاستخبارية، ومشاركة الطائرات والقواعد الأميركية في اعتراض المسيّرات والصواريخ الإيرانية، وأخيراً حملة التضليل الواسعة التي قامت بها الولايات المتحدة للتغطية على الهجوم الإسرائيلي أخيراً، ومباهاة الرئيس دونالد ترامب بمعرفته بأدقّ التفاصيل في المراحل كلّها، وأن الفضل في الإنجازات الإسرائيلية في هذه الحرب يعود إلى تفوق السلاح الأميركي على منظومات الرادارات والدفاع الجوي الإيرانية والروسية والصينية، وكذلك بتوفير غطاء سياسي انضمت إليه أيضاً دول أوروبا الغربية، مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ومجموعة السبع، التي منحت إسرائيل شرعيةً في مهاجمة الأهداف النووية الإيرانية، باعتبارها خطراً يهدّد العالم كلّه.

تحتاج إيران إلى تماسك جبهتها الداخلية لتصمد، وإلى تعزيز أمنها الذي اهتزّ بسبب اختراقات الاستخبارات الإسرائيلية

ترامب شريك كامل في هذه الحرب، كما أن الولايات المتحدة شريك كامل في حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني. أمّا مسألة مشاركتها المباشرة بعديدها وعتادها فهي مرهونة بتطوّرات الحرب ذاتها، ويمكن تلخيص ذلك بأن ترامب سيكون أكثر حذراً في ذلك طالما ظلّت إيران صامدة، أمّا إذا أحسّ ببوادر انهيار في الجبهة الإيرانية، وقدّر أن الحرب لن تستغرق غير أيام معدودة قبل استسلام إيران، فإنه لن يدع هذا النصر لنتنياهو وحده، بل سيحرص على أن يكون شريكاً كاملاً ورئيساً فيه، وسيستخدم طائرات B-2 الوحيدة القادرة على حمل قذائف بوزن 30 ألف رطل، وإطلاقها على المنشآت النووية تحت الأرض، وتحديداً في فوردو، محقّقاً هدف الفوز. وخلال ذلك، سيحرص على تعزيز قواته وأساطيله في المنطقة، وتزويد الجيش الإسرائيلي بما يحتاج إليه من أسلحة وعتاد، بما فيها طائرات التزوّد بالوقود التي أرسل منها إلى المنطقة 32 طائرة، من شأنها أن تسمح بمضاعفة عدد الطائرات الإسرائيلية المهاجمة، المحدودة الآن بنحو 60 طائرة في الطلعة الجوية الواحدة، والتي تُزوَّد بالوقود في رحلتي الذهاب والإياب. فهل تصيب التقديرات الأميركية أم تخطئ، فتجرّ المنطقة بأسرها إلى صراع مفتوح من الصعب التنبّؤ بنتائجه؟
تحتاج إيران أولاً إلى تماسك في جبهتها الداخلية كي تتمكّن من الصمود، وإلى تعزيز أمنها الذي اهتزّ بسبب اختراقات أجهزة الأمن الإسرائيلية، كما تحتاج إلى بناء تحالفات مع الصين وروسيا وباكستان وتركيا، لتعزيز صمودها الاقتصادي من جهة، وإعادة بناء قدراتها في مجالَي الصواريخ والدفاعات الجوية، إذ تتركّز المعارك، وتعويض خسائرها في هذا المجال. ولعلّ ذلك يتطوّر مستقبلاً إلى بناء منظومة أمن إقليمي في المنطقة، تضم إيران ودول الخليج وتركيا ومصر، فتحمي بذلك دول المنطقة نفسها، وتُفشِل مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تهيمن عليه إسرائيل، وتلحق هزيمة كُبرى به.
ما بعد هذه الحرب ليس كما قبلها، ومهما كانت نتائجها، فإنها ستترك آثاراً عميقةً داخل الولايات المتحدة، وستظهر إسرائيل بمنظر الشرطي الشرير الذي يعجز العالم عن ضبطه ووضع حدّ له، وستبدأ بالتراجع والنزول من فوق الجبل على مستوى المجتمع الدولي، كما ستتعمّق أزمتها الداخلية، وسينهش غرورها جسدها المريض.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية