روسيا وأوكرانيا... تفاوض تحت النار
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

شهدت الحرب الروسية الأوكرانية أخيراً تصعيداً عسكرياً متسارعاً، تجلّى في تبادل مكثّف للهجمات الجوّية التي طاولت منشآت حيوية داخل كلا البلدَين. ورغم الحديث عن هدنة مؤقّتة بوساطة أميركية، فإن العمليات العسكرية لم تهدأ، بل تواصلت بوتيرة تثير الشكوك حول جدّية أيّ مسار دبلوماسي، حتى مع انطلاق جولة مفاوضات جديدة بين موسكو وكييف في إسطنبول.
وسط هذا المشهد المعقّد، جاءت عملية أوكرانية لافتة حملت اسم "شبكة العنكبوت"، استهدفت عبر طائرات مسيّرة قواعدَ جوّيةٍ روسيةٍ في عمق سيبيريا، بعيداً من خطوط التماس. يعبّر هذا النوع من الهجمات عن تحوّل مهمّ في استراتيجية كييف، التي تسعى إلى إيصال رسائلَ متعدّدةٍ أوّلها إلى موسكو، مفادها بأن أوكرانيا لم تعد تكتفي بالدفاع، بل باتت قادرةً على تنفيذ عمليات دقيقة في العمق الروسي. تحمل هذه العمليات طابعاً مزدوجاً عسكريّاً ونفسيّاً. فمن جانب، تستهدف أوكرانيا منشآت عسكرية لإضعاف القدرات الروسية وتشتيت جهود الدفاع الجوي، ومن جانب آخر، تهدف إلى التأثير في الرأي العام الروسي، عبر إشعار المواطنين بأن الحرب لم تعد بعيدةً من مدنهم، ما قد يزيد من الضغوط على القيادة الروسية.

قد لا يرى بوتين حافزاً كبيراً لتغيير استراتيجيته، ما يجعل تلبية المحادثات الروسية الأوكرانية لبعض مطالب كييف وبروكسل غير مؤكّدة

كما أن العمليات في العمق الروسي تخدم كييف سياسياً. فهي تسعى، من هذه الضربات النوعية، إلى تعزيز موقعها التفاوضي في المحافل الدولية، والتأكيد على أنها ليست مجرّد طرف متلقٍّ للهجمات، بل تملك زمام المبادرة. وهذا بدوره قد يسهم في رفع مستوى الدعم السياسي والعسكري لها من الغرب. في المقابل، لا تغيب عن المشهد رسائل موسكو، التي غالباً ما تلجأ إلى التصعيد العسكري قبيل أيّ جولة مفاوضات. هذا النهج ليس جديداً، بل يمثّل تكتيكاً مألوفاً في النزاعات الدولية، هدفه إظهار التفوّق في الأرض، وفرض معادلة "التفاوض من موقع قوة". وقد تكون الهجمات الروسية أخيراً جزءاً من هذه الاستراتيجية، لإجبار أوكرانيا على خفض سقف مطالبها أو تقديم تنازلات في طاولة التفاوض.
ويُتوقّع أن تسعى موسكو إلى معاقبة جهاز الأمن الداخلي الأوكراني لدوره في الهجوم، من خلال استهداف مقارّه أو مباني إدارات استخبارات إقليمية أخرى، كما قد تستهدف أيضاً مراكز التصنيع الدفاعي الأوكرانية، كما أن الردّ الروسي قد يشمل قدرات جوّية متنوّعة، بما في ذلك الصواريخ والطائرات المسيّرة، ووفق مسؤول أميركي لـ"رويترز"، فإن الهجوم الروسي سيكون غير متماثل، أي أن منهجيته وأهدافه لن تكون مماثلة لهجوم شبكة العنكبوت الأوكرانية. من جهة أخرى، يحمل التصعيد الروسي بعداً داخلياً، إذ تسعى القيادة في الكرملين إلى طمأنة الجمهور الروسي بأن العمليات العسكرية ما تزال تحقّق أهدافها، خاصّة في ظلّ مؤشّرات على تململ شعبي من طول أمد الحرب وكلفتها البشرية والاقتصادية.
وفيما يتعلّق بموقف موسكو من التصريحات الأميركية، سيّما الصادرة عن الرئيس الأميركي ترامب، الذي أبدى رغبته في إنهاء الحرب سريعاً، فلا يبدو أن روسيا تأخذ هذا الكلام على محمّل الضغط الجدّي. فحتى اللحظة، تتصرّف القيادة الروسية وفق حسابات آنية تراعي الوقائع الميدانية، وليس الرهانات السياسية. بل إن بعض التقديرات تشير إلى أن موسكو قد تسعى إلى استعراض القوة أمام ترامب نفسه، لتقول له، إنها لا تأتي إلى طاولة التفاوض من موقع ضعف.

مستقبل الحرب الروسية الأوكرانية مرهون بمزيج معقّد من الميدان والدبلوماسية

ولكن بالنسبة لأوكرانيا فالوضع مختلف، ومنذ اجتماعه المتوتّر مع ترامب في فبراير/ شباط الماضي، التزم فولوديمير زيلينسكي باستمرار بالمطالب الأميركية، محاولاً إظهار التزام أوكرانيا بالسلام وتصوير روسيا على أنها العقبة الحقيقية، لكن ومع إظهار الولايات المتحدة علامات التوافق مع التفضيلات الروسية، فقد لا يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حافزاً كبيراً لتغيير استراتيجيته أو المسار الحالي بشكل حقيقي، ممّا يجعل احتمالات تلبية المحادثات الروسية الأوكرانية لبعض مطالب كييف وبروكسل غير مؤكّدة.
في المحصّلة، ما يجري اليوم هو "تفاوض تحت النار" بكلّ ما تحمله العبارة من معنى، فالمعركة مستمرّة في الأرض وفي الفضاء السيبراني، والرسائل المتبادلة بالصواريخ والطائرات المسيّرة لا تقلّ أهميةً عن الكلمات التي ستقال في قاعات التفاوض، وبين رهانات كييف على الدعم الغربي، وسعي موسكو لتثبيت مكاسبها، يبقى القول إن مستقبل الحرب مرهون بمزيج معقّد من الميدان والدبلوماسية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية