لماذا انهارت عقيدة الدفاع الإيرانية؟
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

صحت إيران فجر الجمعة (13 يونيو/ حزيران الجاري) على السيناريو الكارثي الذي كانت تعمل لمنعه عقوداً (هجوم عسكري على أراضيها يستهدف قدراتها النووية وبرنامجها الصاروخي وبناها التحتية المدنية والعسكرية)، مُسخِّرةً لذلك كلّ إمكاناتها الاقتصادية والدبلوماسية والدفاعية. كيف حصل هذا، ولماذا؟
منذ عام 1979 شكّلت حماية "الثورة" من أعداء الداخل والخارج الهاجس الأكبر للنظام الإيراني الجديد حينها، الذي شعر بأنه مُستهدَف، حتى قبل هروب الشاه وسقوط نظامه. وقد تعزّز هذا الشعور لدى العثور على وثائق في السفارة الأميركية في طهران، التي اقتُحمت في خريف 1979، تبيّن (بحسب الزعم الإيراني) وجود "مؤامرة" على "الثورة"، تتضمّن مخطّطات لترتيب انقلاب عسكري على الشاه (قبل سقوطه) للحيلولة دون وصول قوىً معاديةٍ للولايات المتحدة إلى الحُكم، في محاكاة لانقلاب 1953 الذي رتّبته المخابرات الأميركية مع قائد الجيش (حينها) الجنرال زاهدي، وأطاح حكومة الزعيم القومي الإيراني محمّد مصدّق. اعتبرت إيران أيضاً أن الحرب مع العراق كانت محاولةً أخرى لاستهداف نظام "الثورة" وإسقاطه من الولايات المتحدة وجيرانها الخليجيين، التي حاولت إيران بدورها إسقاطهم من خلال سياسة "تصدير الثورة". وبسبب الخطر الذي شكّله العراق على نظامها، وعجزها عن دحره، رغم الفارق الكبير في مقوّمات القوة التقليدية التي تملكها (عدد السكّان، الاتساع الجغرافي، الثروات الطبيعية... إلخ)، شرعت طهران، منذ انتهاء الحرب مع العراق، في وضع أسس عقيدة دفاعية تراعي ضعف قدراتها العسكرية، في ضوء عدم إمكانية تحديثها نتيجة الحصار والعقوبات الغربية (الأميركية تحديداً). تكوّنت هذه العقيدة من ثلاثة أركان رئيسة، يقوم الأول على إنشاء "ردع غير متناظر" مع خصومها الرئيسيين في المنطقة (إسرائيل تحديداً)، الذين يمتلكون قدرات عسكرية وتكنولوجية أفضل بكثير من التي تملكها إيران. وتمثّلت الترجمة العملية لهذا الجانب في إنشاء وتسليح وتمويل قوىً غير نظامية (حركات، تنظيمات، مليشيات)، تتمركّز في حدود إسرائيل، أو في مقربة منها، مهمّتها الرئيسة ردعها أو إشغالها عن مهاجمة إيران، وخوض الحرب، في حال وقعت خارج أراضيها. وكان المثال الأبرز والأنجح على ذلك حزب الله، الذي حوّلته إيران بعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 إلى أقوى جيش غير نظامي في العالم، وزوّدته بعشرات آلاف الصواريخ من مديات مختلفة، تتمركز عند الحدود مع إسرائيل.

تعتقد دوائر أمنية غربية أن إيران ليست مهتمّةً بتطوير سلاح نووي، بل تقايض الغرب للاعتراف بنفوذها الإقليمي

وفّرت الظروف الدولية والإقليمية، التي طرأت بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول (2001) على الولايات المتحدة فرصةً لإيران لتطوير هذه الاستراتيجية، فعملت على استنساخ تجربتها اللبنانية في العراق بعد الغزو الأميركي (2003)، ثمّ في سورية واليمن بعد ثورات 2011. وبهذا، أنشأت إيران ما يشبه "حلقة النار" حول إسرائيل، إذا أضفنا إليها صلاتها بحركات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزّة. وعلى مدى عقدَين تقريباً، ألزمت إيران إسرائيل بقواعد اللعبة التي حدّدتها هي، ونجحت في ردعها عن مهاجمة منشآتها النووية، خلاف ما حصل مع العراق (مثلاً) عام 1981 (مفاعل تمّوز)، ومع سورية عام 2007 (مفاعل الكبر)، اللذين هاجمتهما إسرائيل ودمّرتهما. طبعاً، لم تستكن إسرائيل، بل حاولت تخريب البرنامج النووي الإيراني عبر عمليات أمنية واغتيال علماء إيرانيين، لكنّها لم توفّق في وقفه كما فعلت في سورية والعراق.
تمثّل الركن الثاني في استراتيجية الدفاع الإيرانية في تطوير برنامجها الصاروخي، سواء منها التقليدية، التي يمكنها حمل رؤوس متفجّرة بمديات تصل إلى عمق إسرائيل، أو حتى التي يمكنها أن تحمل مستقبلاً أسلحةً نووية. وكانت إيران قد اكتشفت أهمية سلاح الصواريخ خلال حرب المدن مع العراق (1984 - 1986)، ففي سنوات الحرب الأولى، كان العراق يستخدم سلاح الجو والصواريخ (من طرازات سكود تحديداً)، لتوجيه ضرباتٍ مؤلمة للمدن الإيرانية (خصوصاً طهران)، للضغط على نظام الخميني للموافقة على وقف إطلاق النار، وكان يحصل عليها من كوريا الشمالية والاتحاد السوفييتي. في المقابل، لم تكن إيران تمتلك أيّ صواريخ قادرة على الوصول إلى بغداد. وفي 1984، حصلت إيران على أول صاروخ سكود من ليبيا، عبر سورية، وأحدثت بذلك نوعاً من التوازن مع العراق، الذي كان يتفوّق على إيران أيضاً في مجال سلاح الجو بسبب علاقاته القوية مع فرنسا والاتحاد السوفييتي. منذ ذلك الوقت قرّرت إيران تطوير برنامجها الصاروخي، الذي صار في ظلّ ضعف أسلحتها الأخرى (خاصّة سلاح الجو)، أحد أدوات الردع في صراعها مع إسرائيل، وبرز ذلك خصوصاً خلال المواجهات التي وقعت بين الطرفَين في إبريل/ نيسان وأكتوبر/ تشرين الأول 2024.
الركن الثالث في استراتيجية الدفاع الإيرانية، وكلّها كما لاحظنا تتمحور حول مفهوم الردع، تتمثّل في تطوير برنامجها النووي. تعتبر إيران السلاح النووي ضمانةً مهمّةً في حال امتلكته لبقاء النظام واستقراره، وترى أن روسيا ما كان بإمكانها غزو أوكرانيا لو أن هذه الأخيرة احتفظت بسلاحها النووي ولم تسلّمه بموجب معاهدة بودابست (1994)، وأن الولايات المتحدة ما كانت لتُقدم على غزو العراق (2003)، ومهاجمة ليبيا (2011)، وإسقاط نظاميهما، لو أن الدولتَين امتلكتا سلاحاً نووياً. فوق ذلك، تعتبر إيران، بحكم نظرتها إلى نفسها قوةً إقليميةً كبرى، وصاحبةَ حضارةٍ ضاربةٍ بجذورها في التاريخ، أنها تستحقّ هذا السلاح، مثل الهند وباكستان، دع جانباً كوريا الشمالية وإسرائيل. بهذا المعنى، يُعدّ امتلاك السلاح النووي مسألة أمن قصوى، وكرامةً وطنيةً، لدى النظام في طهران. ولا يرتبط هذا الأمر بحكومة الجمهورية الإسلامية فقط، فالطموح النووي الإيراني بدأ مع الشاه الذي حصل على أول مفاعل نووي من الولايات المتحدة عام 1957 في إطار برنامج "الذرّة من أجل السلام"، الذي تبنّته إدارة الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، ثمّ طوره بمساعدة دول أوربية عديدة، أبرزها فرنسا وألمانيا، التي باشرت ببناء مفاعل بوشهر عام 1975.
مع ذلك، تعتقد بعض الدوائر السياسية والأمنية الغربية أن إيران، التي تدرك مدى حساسية امتلاكها السلاح النووي إقليمياً ودولياً وتعرف أنه لن يسمح لها بأيّ حال ببناء برنامج عسكري نووي، ليست مهتمّةً بتطوير سلاح نووي، بل تحاول عبر برنامجها النووي استدراج الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، إلى مقايضة تشتمل الاعتراف بنفوذها الإقليمي وضمانات أمنية بعدم استهدافها، ويدلل هؤلاء على صواب رأيهم بأن إيران أبدت مرّتين استعدادها للتخلّي عن برنامجها النووي في مقابل ضمانات أمنية من الولايات المتحدة. الأولى بعد غزو العراق عام 2003، عندما عرضت حكومة الرئيس محمد خاتمي على إدارة الرئيس جورج بوش (الابن) تفكيك برنامجها النووي، لكن هذا الأخير رفض العرض اعتقاداً منه أن غزو العراق سيكون له فعل الدومينو في المنطقة، وأن النظام الإيراني ساقط لا محالة. كانت المرّة الثانية عام 2015، عندما وقّعت إيران الاتفاق النووي مع إدارة الرئيس باراك أوباما في مقابل الاعتراف بنفوذها الإقليمي (بلغ ذروته بعد الانسحاب الأميركي من العراق، واكتمل هلال النفوذ الإيراني في امتداد المشرق العربي)، وعدم المساس ببرنامجها الصاروخي.

ربّما حاولت إيران مشاغلة ترامب بالمفاوضات لشراء الوقت ريثما تعلن نفسها قوةً نوويةً، لكنّها لم تنجح

ومع رفع العقوبات عنها، وضخّ مليارات الدولارات في عروق اقتصادها، وضعتْ استراتيجيةُ الدفاع المتقدّم (مدعومةً ببرنامجها الصاروخي) إيرانَ في وضع استراتيجي غير مسبوق منذ ثورة 1979، لكنّ هذا الوضع لم يستمرّ طويلاً، ففي 2017 وصل دونالد ترامب إلى السلطة، وفي العام التالي انسحب من الاتفاق النووي، وأعاد فرض العقوبات على إيران. لم يتحسّن الوضع كثيراً بالنسبة إلى إيران مع هزيمة ترامب الانتخابية ومجيء جو بايدن (2021)، لكنّه ساء أكثر بكثير بعد عملية طوفان الأقصى (2023)، التي قرّرت إسرائيل، في إثرها، وبالتعاون مع إدارة بايدن، تغيير المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط، عبر تقويض أسس عقيدة الدفاع الإيرانية. اشتمل هذا على ضرب حلفاء إيران في غزّة ولبنان وسورية واليمن والعراق، والانتقال مع ترامب (الثاني)، إلى استهداف برنامجيها النووي والصاروخي.
من المحتمل أن تكون إيران قد توصّلت بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله (سبتمبر/ أيلول 2024)، وسقوط نظام الأسد بعد شهرين، إلى أنه لم يبقَ أمامها لتجنّب مصير حلفائها سوى امتلاك سلاح نووي، لكن ترامب استعجلها بمهلة الستّين يوماً للرضوخ لمطالبه. ربّما تكون إيران قد حاولت مشاغلة ترامب بالمفاوضات وشراء بعض الوقت ريثما تتمكّن من إعلان نفسها قوةً نوويةً، لكن الواضح أنها لم تنجح. شعرت إيران بعنف الزلزال الذي أحدثته عملية طوفان الأقصى (لحظة وقوعها) في المنطقة، لكنّ الأكيد أنها فشلت تماماً في التعاطي مع تداعياتها، إذ تركت إسرائيل تستفرد بحلفائها الواحد تلو الآخر، إلى أن وصلت إليها في عقر دارها. ... السؤال الكبير المطروح اليوم، وقد خسرت إيران حلفاءها، وفي الطريق إلى أن تخسر برنامجيها النووي والصاروخي (كلّ أركان عقيدتها الدفاعية): هل ينجو النظام بنفسه بعد ذلك؟ كيف وبأيّ ثمن؟

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية