السجود في الصين... إرث ثقافي يُستغنى عنه تدريجياً
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

يمثل السجود لكبار السن في الصين، إرثاً ثقافياً يعبّر عن أعلى درجات الاحترام، غير أنّ الشباب بمعظمهم استغنوا عنه، باعتباره عادة ريفية تتعارض مع الحرية والمساواة

يُعدّ السجود أو الجثو على الركبتين، عادة صينيّة تُمارس تقليدياً في حفلات الزفاف والجنازات ومهرجان الربيع، وغيرها من المناسبات الخاصة التي يُتوقع أن يظهر فيها الشباب احترامهم لكبار السن أو أسلافهم. ففي اليوم الأول من كل عام جديد، يجتمع أفراد الأسرة، الأبناء والأحفاد، في منزل أحد كبار العائلة، ويؤدّون طقوس السجود، إذ توضع في فناء المنزل سجادة كبيرة استعداداً لهذه الشعائر، فيسجد الشباب وينحنون ويلامسون الأرض بجباههم، ثم ينهضون ويقدّمون تحيات العيد. ويعتقد الصينيون أنّ المصافحة والانحناء والتحية اللفظية، كلها طرق لإظهار الاحترام، لكنّ السجود وعلى الرغم من كونه تقليداً، لا ينبغي اعتباره قاعدة جامدة أو عقيدة يجب اتباعها بصرامة، وفق رأيهم.

مع التطوّر السريع الذي شهدته الصين، تغيّرت أنماط حياة الناس. وفي المجتمعات الحضرية تراجعت هذه العادات التقليدية، حيث استبدل بعض الشباب السجود بالانحناء والمصافحة وغيرها من أشكال التحية. ويبدو أن الجيل الأكبر سنّاً يفهم هذه التعديلات الحديثة ويتقبّلها. ويرى بعض الشباب أن هذه الطقوس مجرد تقليد ثقافي، بينما يرى آخرون أنها من مخلفات النظام الإقطاعي الصيني. في حين يقول كبار السن إن الناس حوّلوا فعل السجود إلى لفتة رمزية، مما أضفى عليه معانيَ معقدة. وكتب أحدهم: "لا يهمّ إن كنتَ سجدتَ أم لا، المهم أن تربط التهاني بالعام الجديد بين الأجيال الشابة والأكبر سنّاً، فالتهاني القلبية المتبادلة داخل الأسرة هي الأهم".

يوضح أستاذ الدراسات التاريخية في جامعة "صن يات سن"، ياو لينغ، في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "السجود هو نوع من أنواع الآداب العامة، ويشير إلى مدى إظهار الاحترام. وهو يحظى بشعبية كبيرة في البر الرئيسي الصيني وهونغ كونغ وتايوان واليابان وكل المناطق التي تأثرت بشكل كبير بالثقافة الكونفوشيوسية، بخاصة في شرق آسيا. وهو مرتبط بحالات مختلفة، مثل الوداع أو الشكر أو التحية لكبار السن أو الاعتذار أو التعبير عن التعازي في حالات الوفاة".

ويلفت ياو لينغ إلى أنّ "السجود هو أعلى درجات الاحترام في ثقافة قومية الهان الصينية (تمثل نحو 90% من الشعب الصيني)، لكن استخدامه أصبح نادراً للغاية منذ انهيار الإمبراطورية الصينية. في كثير من الحالات، حلّ الانحناء مع الإبقاء على وضعية الوقوف، محل السجود. ومع ذلك، في المجتمعات الصينية الحديثة، لا يتم الانحناء بصورة رسمية كما هي الحال في اليابان وكوريا الجنوبية. وعادةً ما يتم ذلك في مناسبات خاصة، مثل مراسم الزواج أو للتعبير عن احترام الشخص المتوفى". وعن نشأة هذه العادة، يكشف أنها "نشأت من فعاليات تقديم القرابين في عهد أسرة شانغ، وهي السلالة الصينية التي حكمت وادي النهر الأصفر الأدنى والأوسط في الألفية الثانية قبل الميلاد، خلفًا لسلالة شيا الحاكمة آنذاك. وخلال عهد أسرة شانغ، عندما كان الناس يقدّمون الذبائح، لم تكن القرابين (الخنازير والأغنام) تُقطّع إلى أجزاء، بل كانت تُحفظ في وضعية  السجود. وفي وقت لاحق، تطوّر سجود القرابين تدريجيّاً إلى أن وصل للإنسان نفسه، من أجل إظهار تقواه أمام الآلهة والتعبير عن استعداده لتقديم نفسه قرباناً. ومن ثم، تشكلت تدريجيّاً مراسم السجود عندما تفاعل الناس بعضهم مع بعض".

من جهتها، ترى الباحثة الاجتماعية شو شيا، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن "الصين كانت دائماً مرجعاً تاريخيّاً للآداب والسلوكات ذات الصلة المرتبطة بالمجاملات وإظهار الاحترام وتوطيد العلاقات الاجتماعية. ولم تتغيّر هذه السلوكات منذ العصور القديمة وحتى الوقت الحاضر، سواء كانت على مستوى الأفراد أم الجماعات". وتذكّر بالمثل الصيني "حين تكون مهذباً تستطيع الدخول إلى كل مكان"، وتضيف: "من صور التهذيب السجود لمَن يستحقون ذلك من كبار السن داخل الأسرة الواحدة، وفي الجنازات. ومثل هذه السلوكات التي تنمّ عن تقدير واحترام، لا يمكن تجاوزها أو الاستغناء عنها تحت أي ظرف، بدليل أنها لا تزال حيّة بعد مرور آلاف السنين. وليس من المبالغة القول إنّه من دون هذه الآداب، لا يمكن القيام بأي شيء بشكل جيد في إطار المجاملات الاجتماعية".

وتوضح شو شيا أن "هذه الشعائر تدخل في كل جوانب الحياة، ولها أشكال تعبيرية مختلفة. على سبيل المثال، يمكن اعتبار السجود بمثابة السلوك الأرقى في الصين التقليدية، وهو ضرورة وحتميّ في الجنازات والمناسبات العائلية. ومع ذلك، قد تعتبر الأجيال العصرية أن السجود هو من أكثر آداب السلوك إزعاجاً وثقلاً، لأنه لا يتناسب مع الحداثة، وما طرأ على الحياة من سلوكات جديدة تؤدّي الغرض نفسه".
رغم تراجع هذه العادة تدريجيّاً، ظلت حتى وقتٍ قريبٍ، بالزخم القديم نفسه في المناطق الريفية، حيث لا يزال السجود محفوظاً بوصفه طريقة للترحيب بالعام الجديد. لكن في السنوات الأخيرة، أصبح لدى القرويّين تصوّرات مختلفة حول طقوس السجود للترحيب بالعام الجديد أو إظهار الاحترام لكبار السن. ففي حين يعتقد البعض، وأغلبهم من الجيل الأكبر سنّاً في القرية، أن السجود "طريقة تقليدية يجب الحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة"، يرى بعض الشباب أن السجود "عادة ريفيّة تتعارض مع مفهوم الحرية والمساواة، ويجب حظرها".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية