احتفالية ليوبولد بلوم: طيف جيمس جويس في دبلن
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

غالباً ما كانت التجارب الطليعية في الفضاء الأدبي تُقابَل بالنفور وعدم التقبّل من عموم الجمهور عند ظهورها، وقد يستتبع ذلك إضفاء صفات نمطية على العمل الإبداعي المختلف، تضعه، لفترة طويلة، في ضفة بعيدة عن الجماهيرية. لكن رواية "يوليسيس" للروائي الأيرلندي جيمس جويس تخالف هذا المعتاد، وتكشف عن حالة مختلفة.

هذا ما توضحه تفاصيل الاحتفالية السنوية التي اعتاد الأيرلنديون، من سكان دبلن، تنظيمها منذ عام 1994، والتي تتركّز على يوم 16 يونيو/حزيران، حيث تُستعاد الرحلة التي خاضها ليوبولد بلوم، الشخصية الرئيسة في الرواية، خلال يوم واحد، في المحطات الجغرافية التي توزّع فيها السرد والتداعي الذهني للبطل المرتبط بها.

وقد امتدت الاحتفالية هذا العام لأسبوعٍ كامل، بدأ في الحادي عشر من الشهر وانتهى في السادس عشر منه، وشملت قراءات ومشاهد أدائية قدّمها ممثلون ومتطوعون، قرؤوا مقاطع من الرواية في أماكن بارزة بالمدينة مثل الكنائس والمكتبات والمقاهي. كما نُظّمت جولات تنزه بين الأمكنة التي دارت فيها أحداث الرواية، برفقة مرشدين قدّموا للمشاركين معلومات تاريخية وأدبية عن كل موقع. إضافة إلى حفلات موسيقية، وعروض فنية، وعروض أفلام خاصّة بالمناسبة، فضلًا عن جلسات لإحياء تقاليد من المطبخ الأيرلندي، وفعاليات متنوّعة كالسباحة في شاطئ Sandycove وقراءات في برج Martello نفسه. كذلك، أتيحت لعشّاق جويس فرصة ارتداء أزياء أوائل القرن العشرين.

هل يمكن أن تولد اليوم رواية تُعامَل كما عوملت يوليسيس؟

جرت هذه الفعاليات تحت عناوين لافتة، تمحورت حول تكريم الأدب غير التقليدي وقدرته على التأثير الثقافي، والدعوة إلى العودة إلى القراءة الجادة والتفاعل مع التجارب العميقة ذات البُنى التجريبية، وصولاً إلى ترسيخ فكرة أن "المدينة العادية" (دبلن) ـ كما ظهرت في الرواية ـ يمكن أن تكون فضاءً سردياً متكاملاً، تتجلى فيه، وفقاً لرؤية جويس، هوية أيرلندا الأدبية والسياسية.

تأويل الفعالية انطلاقاً من قيمة العمل الأدبي، ومحاولة جويس خلق مجاز حضاري يقوم على أن كلّ شيء في حياة الإنسان قابل لأن يُصبح ملحمة، يقود المتابع إلى القول إن "يوم بلوم" لم يُبتكر للاحتفاء برواية، بل للاحتفال بإمكانية الرواية ذاتها: تلك اللحظة التي تخيّل فيها جويس أن الكتابة قادرة على احتواء مدينة، وعلى التقاط الوعي البشري بجسده وعزلته وأفكاره الهاربة. لكن ما يُحتفى به اليوم، في زوايا المقاهي وأمام محال بيع القبعات، ليس النص، بل أسطورته، حيث نرى كيف تحوّلت الطليعة إلى فولكلور طقسي.

عند حدود هذه الاحتفالية وجماهيريتها، وكذلك في ظل الاهتمام الحكومي بها، تبدو صورة العمل الأدبي براقة، وتعكس نوعاً مختلفاً من الاحتفاء الاستثنائي. لكن تجاوز هذه الصورة والعودة إلى الماضي يعيدنا إلى حافَات المعادلة التي نحاول فهمها: فهل كان تفاعل الجمهور مع رواية جويس في زمن صدورها، وفي العقود التي تلت، مماثلاً لما نراه اليوم؟

تحوّلت الكتابة إلى حرفة نقدية أكثر منها مغامرة روحية

في الواقع، فإن وضع جويس ـ الذي قدّم من خلال هذه الرواية إضافة مهمة إلى بناء الفن الروائي ـ كان شبيهاً بما واجهه نظراؤه في بلدان أخرى؛ إذ لا يمكن لأي كتابة خارجة عن المألوف أن تنال التقبّل من الجمهور من دون المرور بمخاضات شاقة. فقد كُتبت أولى سطور الرواية في إيطاليا، وواصلت طريقها في سويسرا، ثم اكتمل مدادها في فرنسا بين عامي 1914 و1921، أي خلال سبع سنوات اتسمت باضطرابات شخصية وسياسية هائلة، جعلت من الرواية نفسها ملحمة تأليفية لا تقلّ تشظياً عن مضمونها.

لم تمرّ الرواية ـ التي نُشرت كاملة عام 1922 ـ مرور الكرام، بل اندلعت حولها صراعات امتدت لعقود، عُرفت بـ"حروب جويس". فمنذ نشرها أولًا في أجزاء ضمن مجلة The Little Review (1918–1920)، أثارت جدلاً بسبب محتواها الجنسي الصريح، وأسلوبها غير الممتثل للرقابة الأخلاقية. وقد أدانت محكمة أميركية المجلة عام 1921 بتهمة نشر مواد فاحشة، مما أدى إلى حظر نشر الرواية كاملة في الولايات المتحدة حتى عام 1933، حين صدر حكم تاريخي اعتبر العمل "أدباً رفيعاً" لا إباحياً.

شكّل هذا الصدام بين الرواية والمؤسسة الأخلاقية لحظة حاسمة في تعريف حدود الفن والرقابة، وأرسى أساساً قانونياً جديداً لحرية التعبير الأدبي. وإلى جانب ذلك، تواصل الجدل النقدي حول الرواية، سواء في تأويل مذاهبها، أو في صراع القراءات المتنافرة، أو في محاولات فرض تأويل بعينه وإقصاء سواه.

كذلك، احتدم الجدل حول جويس نفسه، فرأى بعض النقاد أن روايته تعجّ بالعبث والتعقيد، وتخاطب نخبة محدودة، في حين رأى آخرون أنه امتلك طاقة إبداعية غير مسبوقة، عبّر عنها في نحو 265 ألف كلمة، تضم نحو 30 ألف مفردة، من أسماء أعلام وأماكن، وتصريفات أفعال، وصيغ جمع، ما جعل منها "مختبراً لغوياً" للأدب الإنكليزي.

أما آخر تلك "الحروب"، فكانت على يد حفيدته ستيفانيا جويس، التي تبنّت سياسة صارمة في حماية إرثه، إذ عارضت مراراً أي محاولة أكاديمية لنشر رسائله أو استخدام نصوصه من دون إذن، ومنعت أبحاثاً، وسحبت تراخيص عروض مسرحية، وهدّدت مؤسسات أكاديمية بالقضاء. وقد رأى الباحثون أن ما تمارسه الحفيدة، باسم الحفاظ على جويس، ليس سوى قمعٍ للبحث الأكاديمي، وخوض لـ"حرب دفاعية" حوّلت إرثه إلى أرضٍ ملغومة قانونياً بين عامي 1970 و2000.

إذاً، لا يمكن للكتابة الطليعية أن تمرّ من دون أن تدفع الثمن، لكنها، في وقت ما، ستعبر فوق كلّ العقبات لتصل إلى الجمهور، وربما تتحوّل إلى ظاهرة قابلة للاستثمار، كما تفعل المؤسّسات الثقافية والسياحية في دبلن، التي رأت في محاولة مجموعة من الأدباء ـ عام 1954 ـ محاكاة الرواية التي تدور في يوم واحد وفي مدينة واحدة، فرصة يمكن استثمارها ثقافياً وسياحياً، وقد استمرّت تلك المحاولات بشكل متقطّع حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي.

تجربة يوليسيس، التي تبدو متفرّدة، يمكن العثور على نظائر لها في بلدان غربية أخرى، إذ يعدّ الاحتفاء بالأدباء طقساً مألوفاً لدى المؤسسات الثقافية. لكن خصوصية "يوم بلوم" تكمن في كونه احتفالاً بالمدينة نفسها، لا بالرواية فقط. إذ تحتفي دبلن بذاتها كما تخيّلها جويس، من دون الانشغال بالاعتراضات السابقة على مضمون الرواية، أو النظرة المتزمتة إلى بعض جوانبها.

وهذا، في المحصّلة، يقودنا إلى سؤال يتجاوز معنى "الطليعية" — أي تلك التيارات التي تتقدّم زمنها وتتحدّى الأشكال السائدة والتقاليد الجمالية والفكرية، وغالباً ما يُساء فَهمها أو تُفهَم لاحقاً — ليتساءل عن وجودها الراهن: هل باتت الحياة الأدبية والفنية والثقافية اليوم بلا نزعات تجريبية فعلاً؟ أم أنّ ما كان يشكّل أقصى الحداثة في الأزمنة السابقة، قد تحوّل بفعل تطورات ما بعد الحداثة، إلى مجرّد أدواتٍ فارغة من مضمونها، قابلة للاستهلاك في السوق؟

اليوم، يبدو أن هذا الإيمان قد تآكل. والكتابة المغامرة تحوّلت إلى حرفة نقدية أكثر منها مغامرة روحية. باتت تؤدي دورها في المؤتمرات أكثر مما تُحرّك الخيال في المقاهي.

ولعلّ المأساة لا تكمن في هذا التراجع فحسب، بل في التسليم به قدرًا لا يُردّ، إذ لم يعُد أحد يتوقّع أن تفتح رواية جديدة أفقاً لغويّاً أو شعريّاً غير مسبوق. حتى الكتّاب المبتكرون أنفسهم، إن وُجدوا، يكتبون في عزلةٍ مزدوجة: عزلة فكرية عن تيار السوق، وعزلة وجدانية عن قارئ لم يعُد يبحث عن أدبٍ يُغيّر، بل عن نصّ يُمتع، ولو خلا من أي تجديد.

وهكذا، يتحدّد ما يُنتظر من الرواية اليوم في أن تُواسي، أو تُفسّر، أو تُمثّل صوت الهامش. وهي أدوار مشروعة بلا شك، لكنها تأتي دوماً بعد التخلي عن الحلم بتجاوز اللغة المُسخَّرة نفسها.

السؤال عن نهاية الطليعية شغل عدداً من المفكرين والنقاد، وقد سعى بعضهم إلى تفكيك ما استغلق من هذا النكوص العنيف الذي تعانيه الفنون والثقافة، لكن أغلب هذه التفسيرات تنطلق من المشهد الغربي، وتعتبره المعيار الذي تُقاس عليه سائر التجارب. فهل ينطبق هذا الأمر على الثقافات الأخرى أيضاً؟ هل يمكن أن تولد اليوم رواية تُعامَل كما عوملت يوليسيس؟

وهل ما يزال في الأدب ما يمكنه تفجير الزمن، وإعادة تكوين اللغة؟ أم أن الكتابة تجري الآن فوق أنقاض جيلٍ كان يؤمن بأن الأدب مشروع كوني، بينما يسعى كتّاب اليوم إلى أن تكون أعمالهم "أنيقة"، "ذكية"، "صالحة للنشر"، ومرحباً بها في حفلات التوقيع وصالونات النخبة؟


* كاتب وناقد من سورية

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية