
أن تنحرف إلى غير حكايتك، إلى حكاية أخرى تأكلك، من حكايتك الأولى التي صاحبتك من دون أن تخونك أو تأكلك أو حتى تقتلك، كأن ترمي نفسك في فراغ ليس لك، فراغ يصعّب عليك حالك بعد أن تضيع فيه، كمن يسعى إلى حكاية تلتهمه وتلتهم وقته من دون أن يستطيع العودة إلى مكانه الأول، وكنزه الأول، ونخلته الأولى، وكتبه الأولى، التي رواها بطين تعبه وحرمانه، وأن ينسى كلام عمّته التي رسمت له مكان نخلته على التراب، كي لا يضيع في شوارع الحدّادين، وكي تعود لبيت أمّك سالماً من دون أن يلحق بك "الديب" ليلاً.
لا تدخل أبداً بيت حكاية غريبة على قلبك، تراب شوارع حكايتك يشبهك تماماً، وهو الذي نحت ملامحك، وشوارع حكايتك من صنعك وتشبهك تماماً في الحزن.
حدّق في مرآة الماء ترَ صورتك وهي تهتز ما بين عيدان الشامي والقسباء، وشمَّ عرقك، واقبض على حروف اسمك كي لا تضيع في حكاية غيرك، لا تدخل إلى طرف حكاية غير مناسبة، حكاية لا تطيق سردياتها ولا دروبها، ولا تتحمّل ما فيها من أفاعيل لا تليق بك، كلّ ما هو غريب على قلبك ليس لك، حتى الورد الذي لم يصاحب تعبك، ليس وردك أبداً، حتى إن كان مبهجاً من بعيد.
حينما تلعب العصا لا تحمل عصا غير عصاتك، فهي صديقك، كفّك وصديقة عروق كفّك، وصديقة حبيبات عرق كفّك، حتى وأنت تجلس إلى نار في صحراء غريبة عليك، تأمل الوجوه، ففي كلّ وجه حكاية تليق بجلده وتعبه، فإيّاك أن تدخل في طيّات مسرودات غريبة عنك، فقد تأخذك الحكاية أو المحبّة أو الألفة أو حتى الصحبة إلى دهاليز ليست دهاليزك، وإلى سلالم غريبة عن سلالمك، التي اعتدتها في الصعود والحيرة والنزول.
حكايتك هادئة وهي ابنة زرعك، وزرعك على قدر حيلتك، وعلى قدر صبرك تماماً، والصيّاد الحريص يعرف عمق المياه التي يُلقي فيها شباكه، وحكايات الآخرين، حتى وإن كانت عميقة أو تافهة أو جابت كلّ البلدان، إلا أنها غريبة عنك، وعلّها تعطلك عن مواصلة صبرك.
أنت تنتظر من زمان صبرك على مهل، وتنتظر أن تبني بيتك الصغير على مهل، فلا تملأ بيتك الصغير بحكايات معذِّبة لحكايتك أو بنجوم غريبة عن نجومك التي كم صاحبتها وعرفتك، على الأقل، كي لا تضايق حمامك بحكايات أكبر من حكايتك.
كلّ واحد يختار حكايته في هدوء، وأنت اخترت حكايتك من زمان من دون أن تقفز من السطوح، ومن دون أن تجرح قلبك، ومن دون أن ترى الخجل في خطواتك. فيكفيك خجل ثيابك وأنت تعبر وحيداً في الشارع.
العصافير تعرف حكايتها بالقرب من الأسلاك أو فوق البوص والجريد، أو فوق حواف البلكونات المهجورة، أو حول أجران القمح، العصافير تآلفت مع حكاياتها وصعب أن تلعب مع الغربان أو اليمام، وحتى مدمن المقهى يعرف زاويته جيّداً، ويقرأ المفاجآت في المقهى وهو على صمته نفسه، من دون أن يتورّط مع الفلاح الجالس أو قارئ الكفّ، لأنه حفظ حكايته عن ظهر قلب، وخاصّة بعدما كبر.
كتبك التي طالما حلمتَ بها وفيها ولها، هي التي تتضافر مع حظّك القليل في خلق حكايتك، كتبك التي كم أحببتها، حتى إن لم تفتحها، "المشتغلون بالقطن" مثلاً، للكاتب اليوناني، الذي عاش في مصر، جيورجيوس فيليبوس، وبترجمة دكتور عبد المحسن الخشّاب، ولم تفتح الرواية، إلا أخيراً بعد ما مات صديقك مصطفى بيومي من شهور، والذي أوصاك بها من أربعين سنة إلا قليلاً، ولكنّك عنيد ومكابر؛ كتبك هي دربك ومتاهتك.
حكايتك هي التي تكتبك وتلاعبك، وهي التي تقول لك: "أنا التي أكتب لك"، فلا تضُع، ولا تكلّف نفسك بأطماع جارحة، فحكايتك هي ما تتنفسه، وهي أيضاً ما تأكله، وما أكلته، وما تحلم به.
كن على قدر بساطة ما تحت ضلوعك، فقد شُلَّ تحت تلك الضلوع ما سوف تحكيه للأيام التالية، فلا تحاول أن تخون ضلوعك وأسرارها. المركب قد صار هادئاً، والمياه ليّنة، والأمل هناك في الشاطئ الآخر، فلا تستعجل الرحلة.
