
يدرك سكان مدينة حيفا أن منطقة "خليج حيفا" تمثل "قنبلة موقوتة" تهدد المدينة بأخطار كبيرة بسبب ما تحتويه من كميات كبيرة لمواد سامة وأخرى قابلة للاشتعال والانفجار، بعضها سمع الجمهور العام عنها وأخرى تخفى عليه ولا يعلم ماهيتها. وفي الأيام الأخيرة، ارتفع منسوب الخوف كثيراً، بحسب سكان محليين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، ولا سيما بعد استهداف مصافي تكرير النفط التابعة لشركة بازان بصواريخ إيرانية، حيث أدى أحدها إلى مقتل ثلاثة عمّال جراء الحرائق في المكان واستنشاق دخان سام، رغم وجودهم داخل ملاجئ.
ولأول مرة منذ إنشائها، اضطرت إسرائيل إلى تعليق نشاط مصفاة النفط الرئيسية في مجمّع بازان، فيما تلقّى "اتحاد مدن لجودة البيئة في خليج حيفا" آلاف الشكاوى حول الشعور بحرقان في العينين وضيق تنفس، ومع ذلك ذكر الاتحاد أن "مستوى تلوث الهواء في المنطقة لا يتجاوز حالياً الحد الآمن لمنع الأضرار الصحية".
وقال أحد السكان لـ"العربي الجديد" إنه لا ينام في الليل ولا في النهار" بسبب الخوف، وأضاف: "لا نعرف ما ينتظرنا، فالصواريخ تثير قلقاً كبيراً. الوضع الحالي مختلف عن أي تجربة سابقة، ونرى حجم الأضرار التي تتركها الصواريخ، ليس في حيفا وحدها، ولكن في مختلف المناطق. وعبر حيفاوي آخر، جورج حوا، لـ"العربي الجديد" عن المخاوف نفسها وقال إن "الخوف طبيعي ولا شك أنه تزايد. لم نعتد على مثل هذه الصواريخ الإيرانية بهذا الحجم من الانفجار. لا يُمكن توقّع مكان سقوط الصاروخ، وما يمكن أن يسفر عنه خاصة لوجودنا في منطقة حساسة مثل خليج حيفا. وتزداد المخاوف أيضاً مع ما بدأ يتكشف من أن الغرف المحصّنة (الملاجئ الداخلية) ليست آمنة دائماً، ورأينا المأساة التي حلّت في مدينة طمرة".
من مرفأ بيروت إلى حيفا
لطالما كان خليج وميناء حيفا مكانين خطيرين أمنياً وبيئياً، وفي كل حرب تعود الأنظار لتسلط عليهما، كما في جميع المواجهات السابقة مع حزب الله اللبناني، وقبل ذلك سقطت صواريخ سكود عراقية في المنطقة في حرب الخليج عام 1991. وبحسب معلومات وصلت إلى "العربي الجديد" تم إخلاء كميات كبيرة من الأمونيا والمواد السامة من المنطقة، منذ بداية المواجهة الأخيرة مع حزب الله التي أعقبت عملية طوفان الأقصى، أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لتتجه الأنظار مجدداً إلى الميناء في المواجهة الحالية مع إيران.
وعدا عن الحروب، تخوض جهات بيئية وأخرى محلية منذ سنوات نضالاً لإخلاء المنطقة، وصعدت خطواتها بشكل ملحوظ منذ الانفجارات التي هزت مرفأ بيروت، عام 2020، حيث قالت رئيسة لجنة الداخلية وحماية البيئة عضو الكنيست ميكي حايموفيتش، في حينه، خلال جولة نظمتها اللجنة في ميناء حيفا: "ما زلنا نرى وجود الصناعات البتروكيماوية الكبيرة في قلب المجمعات السكانية. ميناء حيفا كله عبارة عن قنبلة موقوتة لعدد غير نهائي من المواد المشتعلة والمتفجرة، ونعلم أن نسبة تفشي الأمراض لدى سكان حيفا أعلى من المعدل العام. على الدولة اتخاذ القرار الفوري بنقل الصناعات الخطرة والملوثة من هنا". ورغم ذلك، بالإضافة إلى جهود عدة جهات ورفع قضايا في المحاكم، واصل ميناء حيفا التوسّع منذ ذلك الحين، فيما يبدو أن "القنبلة" أصبحت أكبر، وربما أخطر مع وصول الصواريخ الإيرانية.
وفي هذا السياق، قال المحامي فاخر بيادسة، عضو بلدية حيفا، لـ"العربي الجديد" إن "مقتل ثلاثة عمال، أعاد إلى أذهان سكان حيفا ما تواجهه المدينة من تحديات كبيرة. تحديات الأحياء العريقة (القديمة) وبيوتها التي تفتقد إلى الحماية، وتحديات خليج حيفا والمصانع الاستراتيجية، وما فيه من مواد تخزين بكميات كبيرة مثل الأمونيا والغازات والوقود وغاز الطبخ. هذا التجمّع الكبير يشكل خطراً كبيراً على الأهالي. ما حدث في مرفأ بيروت هو عيّنة صغيرة لما يمكن أن يحدث في ميناء حيفا، من حيث كميات المواد المخزّنة هنا".
ورغم وجود موانئ أخرى يمكن وضع المواد الخطيرة في محيطها، لكن السلطات الإسرائيلية لا تفعل ذلك. ويرى بيادسة أن الحكومة حولت "حيفا إلى مجمّع لخدمة باقي الأماكن في البلاد، بدل توزيع الصناعات والمواد الخطيرة على مدن أخرى، مثل هرتسليا والخضيرة وأسدود وغيرها، أو نقلها إلى أماكن بعيدة عن المناطق المأهولة في النقب. لماذا يجب أن يدفع سكان حيفا والمنطقة ثمن الاستهتار. الصناعات الملوّثة تقتلنا مرتين، يومياً بالسرطان والأمراض الأخرى جراء الهواء الملوّث بالكيماويات، وتقتلنا في الحروب. هذا مكان خطر جداً في الأيام العادية، فكيف حين نلاحظ تركيزاً على استهداف هذه المناطق".
"أخطر ما في الأمر"
لا تقتصر المخاطر على ما تحتويه "القنبلة الموقوتة"، ولكن الأخطر من كل ذلك، وفقاً لبيادسة، أن "المدينة والدولة ليستا مهيأتين للتعامل مع حدث انتشار مواد سامة بهذا الحجم في حالة الحروب والكوارث"، ويوضح أن "الجبهة الداخلية ليست قادرة على التعامل مع حدث من هذا الحجم إذا وقع، هذا ما سمعناه من مسؤولين خلال الجلسات لتقييم الوضع، والذين أقروا بالعجز عن التعامل مع حدث كبير". ويلفت بيادسة إلى أن الخطر يهدد "المنطقة بأسرها وليس حيفا وحدها. وعلى مدار السنوات الماضية، كانت هناك مطالبات بنقل هذه المواد، وبعضها مواد لا يعرف الجمهور بوجودها، ولكن لطالما اصطدمت الجهود بعثرات، منها التكاليف والحاجة إلى مساحات مناسبة وعقبات تتعلق بالنقل والخطر على الشوارع خلال النقل. لكن لا يُعقل أن تكون الحسابات الاقتصادية هي السبب. واضح أن هذه المصانع لديها قوة اقتصادية وتأثير في الحكومة وتستغل نفوذها".
وفي رده على سؤال "العربي الجديد" بشأن نقل كميات من الأمونيا، قال إنه "في كل فترة الحرب كان هناك تقليص لمنسوب الأمونيا، ولكن لا يمكن الوصول إلى منسوب دون 50% -60%. هذا يعني كارثة. نتحدث عن حوالي 60% من منسوب الأمونيا الذي يكفي البلاد بأكملها، أي كميات هائلة ومخيفة. عدا عن مجمّعات الوقود وغاز الطهي ومستودعات التخزين المختلفة التي تم توسيعها". ويخلص بيادسة إلى أن "خوف السكان هو أمر مشروع جداً ومعروف أصلاً للجميع منذ فترة طويلة. ولكن عندما وصل إلى عتبة البيت (مع سقوط الصواريخ)، بدأ الناس يدركون حجمه. هناك إخفاق من قبل البلديات والحكومات المتعاقبة في التعامل مع الوضع".
مصانع خطيرة
ويضم خليج حيفا منشآت استراتيجية كثيرة قد يؤدي استهدافها إلى كارثة كبيرة، مثل مصافي النفط التي علّقت شركة بازان عملها، ومصانع شركة "كرمل أوليفينيم" المتخصصة في إنتاج البوليمرات من الأوليفينات، مثل البولي إيثيلين والبولي بروبيلين التي تعد من المواد الخام الأساسية في صناعة البلاستيك، وشركة "غديف" المتخصصة في الصناعات البتروكيميائية، وهي تابعة بالكامل لمجموعة بازان، وغيرها. كما تمثل خزانات النفط الخام التابعة لشركة "تاشان" في كريات حاييم مصدر قلق دائم.
وفي أغسطس/ آب الماضي، أكّدت محكمة الشؤون المحلية في حيفا ضرورة إخلاء المنشآت المخصصة لتخزين النفط الخام، مؤكدةً أهمية الحفاظ على أمن الجمهور، مع الإشارة في الوقت نفسه إلى مساهمة هذه الخزانات في أمن الدولة خلال فترات السلم والطوارئ. وتوفّر هذه الخزانات الوقود للصناعات الأمنية ولمحطات الطاقة والوقود، فيما أكدت الدولة خلال جلسة المحكمة أن هذا الموقع قد يكون هدفاً محتملاً في حالة الحرب، وسط التهديد المستمر من الصواريخ والطائرات المسيرة. وتنتج شركة "بازان" منتجات تكرير النفط للصناعة والنقل والزراعة والبنية التحتية والاستهلاك المنزلي. ومن بين المخاطر في المصنع أيضاً مادة البنزين.
