
تتكرّر مشاهد تجمّع الرجال والنساء والأطفال في قطاع غزة الذي أُنهك سكانه من الحصار والجوع والانتظار ساعات طويلة، ليلاً ونهاراً، أملاً بالحصول على كيس طحين من المساعدات القادمة.
بات الحصول على كيس طحين في قطاع غزة مغامرة خطيرة قد تنتهي بالموت، وأصبح الطحين مادة نادرة الوجود في ظل تمدّد الجوع الذي لم يعد طارئاً، وإنما بات شبحاً يطارد آلاف العائلات الفلسطينية، وينخر بطون مختلف فئات المجتمع، خصوصاً الأطفال وكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة.
وتفرض إسرائيل منذ 2 مارس/ آذار الماضي، حصاراً مطبقاً ضد 2,4 مليون فلسطيني في قطاع غزة، وتمارس بحقهم سياسة تجويع ممنهجة، من خلال إغلاق المعابر الحدودية للقطاع، ما أدخله في مرحلة المجاعة وأزهق أرواح الكثيرين. وقد سُمح خلال الأيام القليلة الماضية بإدخال أعدادٍ قليلة من الشاحنات المحملة بأكياس الطحين بالتنسيق مع "برنامج الأغذية العالمي"، إلى محافظة شمال قطاع غزة، لكن على نحوٍ غير منتظم عبر بوابة "زيكيم" أقصى شمال غربي القطاع.
ويتعمد الاحتلال السماح بإدخال هذه المساعدات في ساعات متأخرة من الليل، في مناطق "حمراء" وفق التصنيف الإسرائيلي، وهو ما يدفع آلاف المواطنين لقضاء ساعات طويلة في انتظار دخول هذه الشاحنات رغم المخاطر المترتبة على وجودهم في تلك الأماكن، وتُطلق الدبابات المتمركزة شمال القطاع قذائفها صوب المواطنين، فيما تواصل الطائرات المُسيرة من نوع "كواد كابتر" إطلاق النار صوبهم، ما خلف شهداء وإصابة آخرين.
يصف محمود جمعة (34 سنة) رحلته من حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، إلى شمال غربي المدينة وكأنها مهمة محفوفة بالموت، لا بحثاً عن مأوى أو علاج، بل من أجل كيس طحين، ويقول لـ "العربي الجديد": "وصلت الساعة 9 مساءً، والشاحنات وصلت عند الساعة الواحدة فجراً. آلاف الناس يتزاحمون فوق الشاحنات المحملة بالطحين، وكنت محظوظاً أنني أخذت من أول شاحنة، لكنّني أصبت في يدي اليُمنى من شدة التدافع والتزاحم. الحصول على كيس طحين بات يعادل الموت. قطعت كيلومترات عدّة إلى منطقة وصول الشاحنات، فقد انقطع الطحين لأكثر من شهر؛ وضربني الجوع مع أطفالي. نعيش على بعض المعلبات والمعكرونة، ولمّا بدأت الشاحنات بدخول غزة، حصلت على كيس طحين، وعندها شعرت كأني امتلكت الدنيا، وأطفالي فرحوا كأنه العيد".
خاض الفتى وسيم عبد القادر (17 سنة) غمار ما أسماها "معركة الطحين" في سبيل العودة إلى عائلته بكيس طحين واحد، ويقول لـ "العربي الجديد": "كان المشهد صعباً، والناس قد يموتون تحت عجلات الشاحنات من التزاحم، ومن يصعد فوق الشاحنة بالكاد يستطيع النزول. لا يتوفر الطحين في بيتنا منذ أشهر، وكان هذا الدافع الرئيسي الذي جعلني أتوجه إلى تلك المناطق الخطيرة المصنفة حمراء إسرائيلياً، والشاحنات القادمة تُلقي حمولتها من أكياس الطحين قبل الوصول إلى مناطق وسط مدينة غزة".
يتابع: "آلاف المواطنين يتدافعون عندما تقترب شاحنات الطحين، والمهمة تكون معقدة للغاية للحصول على كيس حين واحد. يمكن اختصار هذا الواقع المرير بالقول إنّ الحصول على كيس الطحين في غزة يعادل الموت".
وكان تفشي الجوع دافعاً لمخاطرة النساء في عتمة الليل، وقطعهنّ الشوارع المدمرة التي تكسوها أكوام الحجارة والركام الناجم عن قصف البنى التحتية والمنازل. من بين هؤلاء أم العبد عايش، التي تحدّت الخوف، وخرجت في الظلام لتسير بين أنقاض البيوت المقصوفة في سبيل تأمين كيس طحين لأطفالها الثلاثة.
وتقول أم العبد لـ"العربي الجديد": "لم نأكل خبزاً منذ شهر، حتى أن أطفالي الثلاثة كادوا ينسون طعمه. مشيت في الليل نحو منطقة التوام في شمالي القطاع لأجل كيس طحين، وحين وصلت كان آلاف الناس هناك، وكان المشهد مخيفاً، لكن الجوع أكبر من الخوف. رغم المخاطر التي شعرت بها أثناء ذهابي، وتحملي التزاحم والتدافع من آلاف المواطنين، إلا أنني عُدت من دون كيس طحين، ومع ذلك لن أتوقف عن الذهاب حتى تحقيق ذلك الهدف".
أما المسن أبو جميل سلامة (63 سنة)، فقد بلغ الجوع به وبأفراد أسرته مبلغه، ما شكّل له دافعاً للخروج عند الساعة الثالثة من فجر يوم الأحد الماضي، أملاً في الحصول على كيس طحين، غير آبه بحالة تدافع المواطنين أثناء وصول الشاحنات. يقول لـ"العربي الجديد": "الطحين غائب عن عائلتي منذ أشهر، والقليل المتوفر في الأسواق لا يمكنني شراؤه بسبب ارتفاع ثمنه، إذ يصل سعر الكيلو الواحد منه إلى أكثر من 70 شيكلاً إسرائيلياً، لذلك لم يكن أمامي أي خيار سوى التوجه إلى مكان شاحنات المساعدات".
ويروي سلامة: "حالة التدافع كبيرة، ولا أحد ينتبه للآخر، والمشهد صعب جداً، وقد تعرضت لإصابة طفيفة، وسقطت على الأرض، وبالكاد استطعت النهوض من جديد. واقعنا مأساوي، والحصول على كيس طحين بمثابة خوض معركة، وقد يكون ثمنه فقد الحياة. الخوف يزداد أكثر في ظلّ إطلاق طائرات الاحتلال المُسيّرة النار تجاه الناس".
وفي خضم تلك المعركة كما يُطلق عليها الغزيون، فقدت العديد من العائلات الفلسطينية أبناءها الذين ذهبوا لانتظار وصول شاحنات الطحين، ولم يعودوا إلى منازلهم منذ أيام عدّة. فقدت عائلة الشنتف أربعة من أبنائها الذين توجّهوا إلى أماكن وصول تلك الشاحنات، وقد خرجوا يوم الخميس 12 يونيو/ حزيران، ولم يعودوا إلى المنزل حتى اللحظة، والشبان هم علي حسن الشنتف (27 سنة)، وزكريا إبراهيم الشنتف (30 سنة)، وعمار إبراهيم الشنتف (27 سنة)، ومحمد سعيد الشنتف (20 سنة).
يقول حسن عمر الشنتف، وهو والد المفقود علي، إن نجله خرج عند الساعة التاسعة مساءً، متوجهاً إلى منطقة دوار التوام، من أجل انتظار وصول شاحنات الطحين القادمة من بوابة "زيكيم"، لكن في ذلك اليوم لم تصل شاحنات، فأمضى ليلته هناك. يضيف لـ "العربي الجديد": "في صبيحة يوم الجمعة، علِم ابني أن شاحنات محملة بالطحين ستصل إلى قرب ما يُعرف بمنطقة المدرسة الأميركية في أقصى شمالي القطاع، فتوجه رفقة أولاد عمه الثلاثة إلى هناك، في سبيل الحصول على الطحين، وهُناك فُقد الاتصال بهم جميعاً".
ويوضح: "لا يزال الاتصال مفقوداً مع ابني والشبان الثلاثة، ولا نعلم هل هم شهداء أم مُعتقلون لدى جيش الاحتلال، لا سيّما أن آليات الاحتلال تتمركز على مقربة من تلك المنطقة. توجهت إلى المكان للبحث عن الشبان الأربعة المفقودين، ولم أجد أي آثار لهم، علماً أنني شاهدت ثمانية جثامين لشهداء في منطقة قريبة، لكنهم لم يكونوا من بينهم. ابني هو سندي الوحيد، وكان هدفه جلب الطحين لنا بسبب عدم توفره في بيتنا منذ فترة طويلة، وتواصلت مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وأبلغتهم بفقدان الشبان الأربعة، وأتمنى أن نسمع أي أخبار عنهم قريباً".
تكرّرت ذات المأساة مع عائلة عواجة، التي فقدت ابنها محمد حسن عواجة (19 سنة)، والذي خرج يوم الأربعاء 11 يونيو، لانتظار وصول شاحنات الطحين قرب مفترق النابلسي جنوب غربي مدينة غزة. تقول والدته صفاء عواجة، إن ابنها توجه من منطقة الصحابة شرقي مدينة غزة، إلى مفترق النابلسي، لكن في ذلك اليوم لم تدخل شاحنات، ولم يرجع محمد إلى المنزل حتى اللحظة.
تضيف لـ "العربي الجديد": "شهود عيان أخبرونا أنهم شاهدوا ابنها مع ثلاثة شبان آخرين وهم يتوجهون إلى منطقة السودانية غربي مدينة غزة، ولا نمتلك أي معلومات عنه غير ذلك، علماً أنه يعاني من مرض زيادة الكهرباء في الجسم، وتصيبه نوبات من التشنج إذا لم يتناول الدواء في موعده المحدد. توجهت العائلة إلى المستشفيات في شمالي القطاع بحثاً عنه، ولم تجده حتى اللحظة، ولا نزال نواصل البحث عنه، كما تواصلنا مع الصليب الأحمر، وأبلغنا بفقدانه، ونأمل أن نجده ونطمئن عليه في القريب العاجل".
وأكد تقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمي أن "غزة تعيش كارثة إنسانية من الدرجة القصوى"، إذ يعاني أكثر من نصف السكان من الجوع الحاد، بينما تهدّد المجاعة أرواح الآلاف، خصوصاً الأطفال والمرضى، فيما تؤكد الأمم المتحدة أن الحصار المفروض على قطاع غزة يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي، وأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني.

أخبار ذات صلة.
