
أهلي
بينما حل عيد الأضحى المبارك هذا العام حاملًا مشاعر الفرح والبهجة لملايين اليمنيين، حمل معه أيضًا ذكرى محرقة مروّعة أدمت قلوب العديد من العائلات اليمنية، وحفرت في أعماقها ندوبًا غائرة لا تمحوها السنين.
أكثر من 20 أسرة يمنية، على الأقل، حل عليها عيد الأضحى وهي تعيش الذكرى الرابعة لمحرقة محطّة الوقود بمدينة مأرب، التي راح ضحيّتها عشرات القتلى والجرحى، بينهم الطفلة “ليان” التي لم تتجاوز حينها الخامسة من عمرها، وتفحّم جسدها برفقة والدها طاهر محمد فرج. ما يشير إلى حجم الوحشيّة المتعطشة للدماء والأشلاء.
تفاصيل المحرقة
ففي الخامس من يونيو/حزيران 2021، أطلقت جماعة الحوثي صاروخًا بالستيًا على محطة وقود بحي الروضة غربي مدينة مأرب، أثناء اصطفاف عشرات السيارات للتزوّد بالوقود، ما أدى لاندلاع حريق هائل في المحطّة.
وبعدها بدقائق، أطلقت الجماعة المصنفة عالميًا بقوائم الإرهاب، من مواقع تمركزها في المرتفعات الجبلية غربي المحافظة طائرة مسيّرة مفخّخة على ذات الموقع بينما كانت سيارات الإسعاف تهرع للإنقاذ وإسعاف المصابين.
أسفر الهجوم المزدوج والحريق الذي أحدثه عن مقتل 21 شخصًا بينهم الطفلة ليان، والطفل حسان الحبيشي (10 سنوات)، وإصابة آخرين بإصابات متفاوتة، إضافة إلى تدمير كلي للمحطّة، واحتراق 7 سيارات على الأقل، وتضرر سيارات أخرى بينها سيارتي إسعاف.
تداولت وسائل إعلام محلية ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا وتسجيلات مروّعة للحادثة، كان أبرزها مشاهد الطفلة ليان، بعد أن عُثر عليها وهي متشبّثة بوالدها قرب المحطّة، وجسدها متفحّم بالكامل.
كانت أسرة ليان، قد نزحت من محافظة عمران (شمالي اليمن) واستقرّت بمأرب ضمن مئات آلاف الأسر التي فرّت من جحيم الحروب، وتعطّل الخدمات، وانعدام سبل العيش التي فاقمتها الحروب التوسّعية لجماعة الحوثي.
سجل أسود
طوال العقد الماضي، ظلّت مدينة مأرب، التي تحتضن معظم الأسر النازحة بالمحافظة، هدفًا مباشرًا ومتواصلًا للقصف الحوثي من المرتفعات الغربية للمحافظة، والذي خلّف عشرات الضحايا وأضرار كبيرة في الممتلكات العامة والخاصة.
خلال الفترة من أكتوبر 2014 وحتى 30 فبراير2022، أحصى تقرير حقوقي لمنظمة “يمن رايتس للحقوق والحريات”، ٢٢٦٣ عملية قصف شنّها الحوثيون بالصواريخ والمدفعية والطيران المسير استهدفت الأعيان المدنية وما في حكمها بمحافظة مأرب، ونتج عنها مقتل وإصابة 2316 مدنياً، منهم 788 قتيل و1528 جريح.
وإضافة إلى 421 استهداف طالت المنازل المدنية، وثّق التقرير 123 حالة قصف استهدفت مخيمات النازحين بمارب، أبرزها مخيم الميل الذي قال إنه اُستهدف بـ17 مقذوفًا أسفر عن قتل وإصابة 115 نازحاً، بينهم 34 طفلاً و23 امرأة. كما سجّل 96 عملية قصف واستهداف طالت المدارس والمنشآت التعليمية، و78 استهدافاً طال المستشفيات والمنشآت الصحية والفرق الطبية، و89 حالة قصف لمنشآت حكومية وخدمية.
ووثّق التقرير استخدم الجماعة الحوثية في عمليات القصف والاستهداف 367 صاروخاً باليستياً، و627 صاروخ غراد (كاتيوشا)، و238 طائرة مسيرة مفخخة، و653 قذيفة هاون، و388 مقذوفات أخرى متنوعة.
كانت عملية استهداف محطّة الوقود واحدة من أبشع الجرائم التي شهدتها المدينة، إذ استخدمت الجماعة فيها الصواريخ والطائرات المسيّرة المفخّخة، وهو تكتيك تستخدّمه لضمان إلحاق أكبر عدد من الخسائر البشرية.
أبشع الجرائم
في حديثه لـ“بران برس”، تزامنًا مع الذكرى الرابعة لهذه الجريمة، وصف مدير عام مكتب حقوق الإنسان بمحافظة مأرب، عبدربه جديع، هذه الحادثة بأنها من أبشع الجرائم التي ارتكبتها جماعة الحوثي بحق المدنيين، وتصنّف كجريمة ضد الإنسانية، لأنها تأتي ضمن نمط واسع وممنهج، كما تؤكد ذلك تقارير موثقة من منظمات دولية.
وقال “جديع”، إن “مجزرة الروضة جسّدت مدى استهتار جماعة الحوثي بحياة الأبرياء، واستخدامها الممنهج للعنف والإرهاب لبث الرعب والخوف في نفوس المدنيين”. مضيفًا أن “صورة الطفلة ليان، وهي متفحمة في حضن والدها، لم تكن فقط صورة مأساوية، بل كانت صرخة أخلاقية وإنسانية هزّت ضمير العالم”.
فيما، وصفها رئيس منظمة مساواة للحقوق والحريات، نجيب الشغدري، بأنها “مذبحة دموية هزت ضمير الإنسانية، ولاقت استنكارًا ورفضا ًواسعًا من كل أبناء الشعب اليمني بمختلف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية”، واعتبرها “من أبشع المجازر التي ارتكبها الحوثيون في مسيرتهم الإجرامية”.
وقال لـ“بران برس”، إن الحوثيين استهدفوا بصاروخ باليستي، من الأسلحة المحرمة دوليا، محطة مشتقات نفطية واقعة وسط حي مكتظ بالمدنيين العزل، مخلفين عشرات القتلى والجرحى من المدنيين بينهم الطفلة البريئة ليان”.
وأضاف أن “تلك الجريمة الدخيلة على أخلاق اليمنيين وعاداتهم ومبادئهم، ومثلها المئات من الجرائم الدموية التي يرتكبها الحوثيون بحق اليمنيين، هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
انتقام عقائدي وتكتيك رعب
الحقوقي الشغدري، أوضح أن الحوثيين يرتكبون هذه الجرائم “بدافع الانتقام العقائدي الخطير الذي تنطلق منه الجماعة”، واليت قال إنها “لم تتوقف عند ارتكاب مجزرة الطفلة ليان فقط، بل عقبها عشرات المجازر والمذابح والجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين والأطفال والنساء في مختلف محافظات الجمهورية”.
وأشار إلى أن “هذا الإجرام بحق المدنيين سيستمر ما استمر هذا الفكر الإجرامي الدخيل على اليمن واليمنيين”.
فريق خبراء مجلس الأمن المعني باليمن، كان قد تطرق إلى هجمات الحوثيين على المناطق المأهولة بالسكّان، خصوصًا في مدينتي تعز ومارب، واصفًا هذه الأعمال بأنها “ممنهجة”.
وأوضح في تقريره السنوي الصادر في العام 2022، أي بعد الجريمة التي أودت بالطفلة ليان وعشرات الضحايا من المدنيين، أن هذه الأعمال “تهدف إلى نشر الرعب بين السكان المدنيين”. مؤكدًا استمرار الحوثيين في تجاهل مبدأ التمييز ومبدأ حماية المدنيين. مؤكدًا أن هذا الأمر أمر محظور بموجب القانون الدولي الإنساني.
وقال إن فريقه حقق في 8 حوادث استخدم فيها الحوثيون ذخائر متفجرة بصورة عشوائية في مناطق مأهولة بالسكان في مارب وتعز، أسفرت عن مقتل 33 شخصًا بينهم ثمانية أطفال، وإصابة 51 آخرين، بينهم 11طفلًا.
ليست أرقام
شدد مدير عام مكتب حقوق الإنسان بمحافظة مأرب، على أنّ مثل هذه الجرائم تتطلب تحركًا عاجلًا من المجتمع الدولي من أجل المساءلة وعدم الإفلات من العقاب.
وقال “جديع”، في رسالة وجهها عبر “بران برس”، إلى المهتمين بقضايا حقوق الإنسان في العالم، إنه “لا يجب السكوت عن هذه الجرائم، ولا يجب أن تُعامل هذه المجازر كأرقام تمر في تقارير حقوقية فقط”.
وأضاف: لا تزال أسر الضحايا تنتظر العدالة، ولا يزال الجناة طلقاء، يمارسون المزيد من الانتهاكات”. مؤكدًا أنّ هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ومن واجبنا الإنساني أن نحشد الجهود لمحاكمة المسؤولين عنها، ودعم أصوات الضحايا، وتعزيز ثقافة المحاسبة، كي لا تتكرر مثل هذه المجازر”.
مناصرة الضحايا
في حديثه لـ“بران برس”، أكد نجيب الشغدري، أنّ استهداف المدنيين مجرّم في كل الشرائع والقوانين، في كل الأحوال خاصة في وقت الحروب والمواجهات العسكرية، مضيفًا أن القانوني الدولي الإنساني، شدّد على تجريم استهداف المدنيين والأعيان المدنية، والتزام مبدأ التمييز في جميع الأوقات، واعتبر تجاوز ذلك جريمة حرب.
ودعا الشغدري، إلى إحياء هذه الذكرى الأليمة مناصرة للضحايا وأسرهم، ولتلك الطفلة البريئة التي قصفها الحوثيون بصاروخ باليستي حوّل جسدها الصغير إلى أشلاء ممزقة.
وقال إن “إحياء هذه الذكرى إحياء للذاكرة الزمنية، وخطوة نحو تحقيق العدالة والاقتصاص للضحايا من خلال الضغط على الجهات المختصة المحلية والدولية لاتخاذ إجراءات قانونية عاجلة تضمن تقديم المجرمين للعدالة.
وأضاف أنّ “مناصرة ضحايا الحرب، خاصة تلك الفئات الأشد ضعفاً في المجتمع النساء والأطفال، واجب ديني وأخلاقي على كل إنسان، ويكون أكثر مسؤولية عند مناصري قضايا حقوق الإنسان، مؤسسات وأشخاص”.
فرحة بطعم المأساة
في مدينة مارب، كما في معظم البلاد، ارتبطت أعياد اليمنيين بالمجازر الدموية منذ توسّع آلة الموت الحوثية قبل أكثر من عقد، غير أن هذه الجريمة لم يسبق لها مثيل. تفاصيلها ومشاهدها المؤلمة هزّت أرجاء اليمن وترددت أصداءها في المنطقة والعالم، خصوصًا الطفلة ليان، وهي متفحّمة ومتشبّثة بجثمان والدها المحترق.
تصادف الذكرى الرابعة لهذه المأساة القاسية يوم الـ5 من يونيو/حزيران 2025، أي اليوم الذي يسبق مباشرة عيد الأضحى، وهو ما يجعلها فخًا قاتل لفرحة كل اليمنيين وليس عائلات الضحايا فقط، فمشاهدها لا تزال عالقة في أذهان الجميع، وحاضرة في وجدانهم كدليل راسخ على وحشيّة متنامية، وآلة متجرّدة من القوانين والقيم والأخلاق.
لا يمكن تخيّل كيف يمكن لعائلات الضحايا أن تستقبل العيد وهي تعيش الذكرى الرابعة لأبشع جريمة شهدتها البلاد. جريمة لم تتوقف عند سلب أرواح الضحايا بل أحرقتهم أحياء، ومنعت أي عملية إنقاذ أو حتى وداع يرضي عائلاتهم التي أنهكها الخوف والنزوح والحرمان.
عائلة الطفلة الغضّة ليان، واحدة من هذه العائلات المكلومة، لا يمكنها تجاوز الفقد الأليم، والفراغ الثقيل الذي تكابده طوال 4 سنوات، ولا يمكن لأي مناسبة أن تضيف لها معنىً للفرح بقدر ما تجدد أحزانها الممتدّة. فالحزن هنا لا يتوقف عند حجم الخسارة، بل يشمل شناعة الجريمة، ومشاهد الوداع القاسية، والعدالة المفقودة. وفوق كل هذا وذاك، لا يزال المجرم طليقًا يمارس جرائمه في طول البلاد وعرضها مرتديًا ثوب الأخلاق وقناع الإنسانية.