ولكن مهلاً.. ما هو النموذج الحقيقي للمرأة السورية؟
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

تتردّد العبارة بأشكال مختلفة، وفي مناسبات مختلفة، فكل ظهور تلفزيوني، أو عبر "السوشيال ميديا" لسيدة ما، تفعل شيئاً ما، أو تلبس بطراز معيّن، تتصاعد صرخات: هذه المرأة تشبهنا، هذا هو النموذج الحقيقي للمرأة السورية. ولكن مهلاً. هل هناك نموذج واحد للمرأة السورية الحقيقية؟ وإن كان فأي نموذج هو؟
لم يتخيّل الجنرال الفرنسي هنري غورو، الذي ارتبط اسمه بفرض الانتداب الفرنسي على سورية واحتلال دمشق، يوماً أن نساء الشام سيواصلن ذمَّه ولعنه مع كل مصيبة صغيرة أو كبيرة... رغم أن غورو غادر دمشق في أواخر عام 1923، أي قبل ثلاث سنوات من وفاته، فإن لعنة الدمشقيات ما تزال تلاحقه إلى قبره وكأنها لن تنتهي، كيف لا، وهو في نظرهن لا يمثل سوى الاحتلال والقمع وتفكيك الهوية الوطنية. وإن تساءل أحد أحفاد غورو يوماً عن ماهية "اللعنة الدمشقية"، فليعلم أنها تتجسّد في تلك العبارة التي ترددها نساء الشام بعد كل كارثة: "ولي على غورو!" أي: الويل لغورو.
سواء احترقت طبخة، انسكبت القهوة، أو انقطع الإنترنت، يبقى غورو في وجدان الشاميات هو أصل كل البلاء وسببه.

من أين يأتي بعضهم بتلك القدرة على التصنيف، والجزم النهائي، والشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة، وتقديمها رأياً وحيداً

نازك العابد.. الجنرال الفخري 
لكن نساء سورية لم يواجهن غورو باللعنات وحدها، فنازك العابد، الدمشقية الشابة، ما اكتفت بالشجب ولا ارتضت بالدور الرمزي للثورة، بل دخلت تاريخ النضال من أوسع أبوابه، ففي صيف عام 1919، وبينما كان الجنرال غورو يستعد لإطباق قبضته على سورية، كانت نازك تجلس أمام لجنة كينغ - كرين الأميركية، التي جاءت لتستطلع رأيَّ السوريين والسوريات بالانتداب، لتُدلي نازك بشهادتها الرافضة للانتداب الفرنسي، بلهجة واثقة لا تقبل المواربة.
وحين جاءت معركة ميسلون، لم تكن نازك بين المتفرّجين، إذ خرجت بلباس عسكري، وسارت جنباً إلى جنب مع الجنود والضباط، تحمل على ذراعها شعار جمعية "النجمة الحمراء" التي أسستها بنفسها لخدمة الجرحى، واقفةً إلى جانب وزير الحربية يوسف العظمة وجنوده في المعركة، وتكريماً لها لشجاعتها منحها الملك فيصل لقب "الجنرال الفخري"، في مشهد ما كانت مدينة دمشق قد عرفته من قبل: امرأة تلبس الزي العسكري، تمشي في مواكب الجند، وتصرّ على أن مكانها بينهم، لا خلفهم.
لكن الهزيمة جاءت، واحتُلّت دمشق، فتوارَت نازك عن الأنظار، تنقّلت بين إسطنبول وعمّان، ثم عادت فيما بعد، بهدوء المقاتلة التي لم تنسَ ولم تُهزم. رفضت عروض الانتداب الفرنسي، التي حاولت شراء موقفها بمخصصات مالية سخية لدعم مدرستها "مدرسة بنات الشهداء"، بشرط أن تكتب وتُعلّم باسمهم.
توفيت نازك العابد في بيروت عام 1959، عن عمر ناهز 72 عاماً، لكنها ستظل حاضرة كشامةٍ بارزة في تاريخ سورية، واليوم يقف تمثال وزير الحربية الشجاع يوسف العظمة منتصباً بشموخ في ساحة المحافظة في قلب العاصمة، وكأن المدينة ترد له التحية على وفائه وتضحياته.
تمثالٌ جميل، يليق بمن وقف في ميسلون وقال "لا للانتداب"، لكنّه لا يكتمل من دون نصفه الآخر. فأين نازك؟
أين تمثال المرأة التي وقفت إلى جانبه في ذات المعركة، ترتدي البزة العسكرية، معلنةً أن النساء لا يُراقبن النضال بل يصنعنه إلى جانب الرجال؟ من هنا، ومن قلب دمشق، أطالب بتمثالٍ لنازك العابد يجاور تمثال يوسف العظمة، لا تكريماً فقط، بل تصحيحاً للتاريخ وإعادة للتوازن في الذاكرة، لأن نازك لم تكن أقلّ شجاعة، ولا أقلّ تضحية، بل كانت بصوتها وجسدها وقلمها جزءاً لن يُفصل عن تاريخ سورية وذاكرتها.

ماري عجمي.. صوت الحرية في بيت الأدب

 لم تكن نازك العابد وحدها، فصوت دمشق طالما كان نسائياً بامتياز، ماري عجمي، مثلاً، كانت من أوائل السوريات اللواتي فهمن أن مقاومة المستعمر تبدأ من الكلمة، من تشكيل الرأي، من إعادة صياغة الوعي. في عام 1910، أسّست ماري عجمي المنتدى الأدبي في بيتها، ذلك الصالون الذي صار ملتقى المثقفين والوطنيين والكتّاب في دمشق، رجالاً ونساءً، وكان بمثابة المدرسة الأولى التي خرّجت أجيالاً من الحالمين بالحرية.
ما كانت ماري تخشى السلطة، كتبت في الصحف، ألقت الخطب، واجهت الرقابة. وفي عام 1919 أصدرت مجلة العروس، أول مجلة نسائية سورية، كتبت فيها عن التعليم، الاستقلال، حقوق المرأة، وكأنها تنبّه الجميع إلى أنّ الاستعمار والقمع لا يُحاربان فقط على الأرض، بل أيضاً في العقل واللغة والهوية.
فلك الطرزي ترفع صوتها
لم تقف السوريات مكتوفات الأيدي أمام الظلم، بل صنعن مقاومةً متنوّعة الأوجه، حمل قسم منهن البندقية، وقسم آخر القلم والورقة، وجميعهن شكّلن معاً نسيجاً من العزم والإصرار على استعادة الحرية والكرامة، فالكاتبة فلك الطرزي كانت واحدة من الأصوات الأدبية النسائية البارزة التي نشرت موادها في صحف سورية ولبنانية متعدّدة، أبرزها مجلة الأديب في بيروت، وقد انخرطت في الحياة الثقافية من خلال حضورها المنتظم في الندوات والصالونات النسائية التي بدأت تتشكّل منذ منتصف الثلاثينيات، أول ظهور لمقالاتها كان في صحيفة القبس عام 1937، بعنوان: "اللغة العربية وموقف شبابنا منها".


نساء جبل العرب.. شهداء البطولة والتضحية
شهدت الثورة السورية الكبرى التي قادها المجاهد سلطان باشا الأطرش من جبل العرب مشاركة نسائية في مختلف المجالات، إذ استُشهدت في جبل العرب وحدَه خمسٌ وتسعون امرأة خلال المعارك، وكان للنساء دورٌ أساسيٌ في النضال بطرق وأساليب متعددة، ومنهن المناضلة "بستان شلغين" التي تولّت تجهيز المؤن للثوار، وعندما نفدت مدخراتها المالية، قامت ببيع مصاغها الذهبي لشراء الطحين الذي كان ضرورياً لإطعام الثوار في ظروف القتال الصعبة.
أم الساروت وأم غياث مطر.. نساء بحجم وطن
وفي الزمن السوري المعاصر، حين لم تعد التضحيات فردية بل صارت بحجم الوطن، برزت وجوه نسائية أعادت تعريف البطولة، أم الشهيد عبد الباسط الساروت، والدة المنشد الثائر وحارس الثورة، لم تكن فقط أمّاً لأربعة شهداء، بل صارت أمّاً للثورة كلها، ظهرت تودّع أبناءها بكبرياء، وتحمد الله على الشهادة، وكأنها تواسي كل الأمهات وتلهم كل الأبناء، لم تكن والدة عبد الباسط الساروت مجرّد داعمة لابنها، بل كانت حاضرة في قلب الحراك الثوري، ويقال إنها كانت تساعد الساروت في كتابة بعض أغاني الثورة، تشاركه الكلمة والموقف، وتنسج معه شعارات الهتاف وأهازيج الساحات، لم يكن دورها محصوراً بالأمومة، بل كانت شريكة في المعركة، تثبت أن النساء أيضاً في الخطوط الأمامية، وإن وقفن في بعض الأحيان خلف الكواليس.
من داريا إلى جبل العرب.. إرث غياث مطر في صوت أمّه
في داريا، حيث واجه الشهيد غياث مطر الرصاصَ بالماء والورد، وبعد سقوط النظام سارت أم غياث على خطى ابنها، إذ لم تكتفِ بأن تكون أمّاً ثكلى، بل تحوّلت إلى صوتٍ يُكمل ما بدأه غياث في حياته القصيرة، بعد سقوط النظام لم تدفعها فاجعة الفقدان إلى الانتقام، بل دفعَتها لتكون جسراً بين السوريين، تحمي ما تبقّى من نسيجهم المشترك.
حين بدأت حملات التحريض والتجييش الطائفي ضد أهلنا في السويداء، ظهرت أم غياث في لقاء مؤثر، لتروي كيف لجأت إليهم هرباً من الملاحقة، وكيف استقبلوها بكرمهم واحتضنوها كأنها واحدة من بناتهم. قالتها ببساطة صادقة: "السويداء حمتني.. وما شفت منهم غير الكرم والنخوة". شهادتها لم تكن فقط تجربة شخصية، بل كانت امتداداً عملياً لمشروع غياث في السلم الأهلي، وكانت محاولة شجاعة لإطفاء نار أراد لها البعض أن تحرق كل شيء.
رزان زيتونة وسميرة خليل.. نضال لن يُخطف من الذاكرة
رزان زيتونة ورفيقتها سميرة الخليل هما أيضاً خير نموذج للمرأة السورية، رزان المحامية والصحافية التي أسّست لجان التنسيق المحلية في بدايات الثورة، لم تحمل فقط ملف المعتقلين، بل حملت صوت الثورة النقي، كما هو، من الشارع إلى العالم، بلا تزييف ولا مساومة.
ظلّت رزان تكتب وتوثّق وتواجه، حتى وهي محاصرة في دوما، وحتى اللحظة الأخيرة قبل اختطافها في ديسمبر/ كانون الأول 2013، كانت تؤمن أن الكلمة موقف، وأن العدالة لا تسقط تحت الركام. أما سميرة خليل، فكانت وجهاً آخر للمقاومة المدنية، سُجنت في ثمانينيات القرن الماضي سنوات بسبب نضالها ضد نظام حافظ الأسد، وخرجت لتواصل المشوار من دون كلل، فصارت صوتاً للنساء المهمّشات، ويداً ممدودة لمساعدة من كسرهم الفقر أو السجن أو الحرب، حين ذهبت إلى الغوطة، لم تبحث عن ضوء الكاميرا، بل عن الناس الذين لا يُرى وجعهم، أولئك الذين قاوموا الجوع والحصار والخذلان، ووقفت إلى جانبهم كما لو أنها واحدة منهم.
رزان وسميرة اختُطفتا، لكن أثرهما باقٍ، ليس في الذاكرة فقط، بل كجزءٍ حيّ من تاريخ الثورة التي بدأت سلمية.

وجد ملايين النساء اللواتي ناضلن في صمت، في الظل، في المطبخ، في الزنزانة، في عتمة الخوف، وفي المخيم

مي وفدوى ويارا. حين يصبح الفن موقفاً
لم يكن نضال المرأة السورية محصوراً في الخنادق أو السجون، بل تمدّد أيضاً إلى خشبات المسرح وشاشات التلفزيون، حيث أكدت فنانات سوريات أن الفن الحقيقي لا يصمت حين يعلو صوت القمع، بل يتحوّل إلى سلاح.
كانت مي سكاف من أوائل الفنانات اللواتي انضممن علناً إلى الثورة، رفعت صوتها في المظاهرات، شاركت في التنسيقيات، اعتُقلت، وهُدّدت، لكنّها أصرّت على أن تكون في صف الشعب، إلى أن نُفيت قسراً، وتوفيت في منفاها عام 2018.
فدوى سليمان، ابنة الطائفة العلوية التي كسرت جدار الطائفية بجسدها وصوتها، حين وقفت في قلب حمص إلى جانب عبد الباسط الساروت، وهتفت للحرية بين الناس، متحدية كل محاولات التشويه والتهديد وكانت تجسيداً حقيقاً للثورة التي كانت تهتف "الشعب السوري واحد"، فصوت مي سكاف كان يجمع الناس، مؤكداً أن الانتماء الحقيقي هو لسورية فقط، لا للطائفة ولا للمذهب. في حين استخدمت يارا صبري شهرتها للدفاع عن المعتقلين والمعتقلات، وتحمّلت نتائج موقفها الجريء بمغادرتها سورية وتعرضها لحملات تخوين وتشويه، لكنها بقيت ثابتة على دربها، مؤمنة بأن الفنان الحقيقي لا ينفصل عن وجع شعبه.

الجندي المجهول
كل هذه الأمثلة وسواها، لا تعدو أن تكون نصباً تذكارياً لملايين النساء السوريات، في كل مكان، وفي كل قطاع، وفي كل زمن. وخصوصاً في سنوات الثورة، حيث تعرّضت مئات الآلاف من النساء للاعتقال والتضييق الأمني، والتهجير القسري. ومن هؤلاء خرجت آلاف المبادرات، والمؤسسات، التي واكبت الثورة. فعملت النساء السوريات في التوثيق، والإعلام، والإغاثة، وفي العمل السياسي المباشر، والعمل المدني على اختلاف تفرعاته. 
بالإضافة إلى قائمة النساء اللواتي ذُكرن آنفاً توجد ملايين النساء اللواتي ناضلن في صمت، في الظل، في المطبخ، في الزنزانة، في عتمة الخوف، وفي المخيم، فبين معركة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي ومعركة الكرامة ضد نظام الأسد، تسلسل نضال السوريات ما انكسر ولا تراجع يوماً، حتى لو لم تُدوّن أسماء جميع المناضلات السوريات في الكتب أو لو لم تُرفع صورهن في الساحات.
وقد برز نشاط الحركة النسوية السورية، وتصدّر المنابر الدولية، بدءاً من قاعات الأمم المتحدة، وحتى أصغر حي في سورية، او أصغر خيمة سكنها سوريون مهجّرون في الشمال أو في دول الجوار. 
ومن بين هؤلاء النساء كانت جدّتي عائشة سعيد. لعلّ هذه السطور تكون فرصةً لأُخبرها، هي التي توفّيت في التسعينيات، أن نظام الأسد قد سقط، وأنني أحاول السير على دربها. جدتي عائشة، ابنة مدينة النبك، كانت أمّية لا تعرف القراءة ولا الكتابة، لكنها كانت تعرف كيف تطبخ بحب، وكيف يكون الطعام رسالة مقاومة، جدتي كانت تُعدّ أطباقها الشهية وترسلها مع جدي المجاهد محمد محسن عامر إلى ثوار دمشق المرابطين في غوطة الشام الشرقية حيث كانوا ينظمون أنفسهم لمهاجمة جنود الانتداب الفرنسي، جدتي لم ترفع شعارات، ولم تكن تعرف كيف تُكتب البيانات، لكنها كانت تعلم أن طبق المجدرة قد يسند مجاهداً، دورها كان جزءاً من خيط النضال النسائي الطويل الممتد منذ الأمس البعيد.

ماري عجمي، مثلاً، كانت من أوائل السوريات اللواتي فهمن أن مقاومة المستعمر تبدأ من الكلمة، من تشكيل الرأي 

النموذج 
لا أعرف حقاً من أين يأتي بعضهم بتلك القدرة على التصنيف، والجزم النهائي، والشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة، وتقديمها رأياً وحيداً، حين يقولون أمام صورة ما، أو في مناسبة ما: هذا هو النموذج الحقيقي للمرأة السورية؟.  وهذا ما قادنا إلى هذه الرحلة التي وصلت بنا، إلى نتيجة أن النموذج الحقيقي للمرأة السورية، هو كل النماذج الموجودة والممكنة والمحتملة، وأنه لا يمكن حصر المرأة بشكل واحد، أو بنموذج واحد، وأن المرأة السورية، امرأة وسورية، مهما كان ما تلبسه، ومهما كان ما تعمله، وأنه لا يمكن حصر البشر عموماً، والنساء خصوصاً داخل إطار أو قالب واحد. فالبلاد التي قامت على التنوع العرقي والطائفي والديني والثقافي، تتسع لكل النماذج، ولكل طرائق التفكير، وأنواع الثقافات، وسورية تفخر بنسائها، كما تفخر برجالها، ومفهوم البطولة في بلد مثل سورية، مرّت بكل هذه التجارب القاسية، هو مفهوم واسع يستوعب اشكالاً لا تنتهي من البطولة. 

هي الوطن
هكذا يتجلّى النموذج السوري للمرأة السورية: امرأة لا تُختصر في صورة نمطية، ولا تُحصر في دور محدد، بل تتجاوز كل التصنيفات الضيّقة التي حاولت الأنظمة والمجتمعات فرضها عليها، هي الأم التي ربّت أجيالاً على الإباء، والمناضلة التي وقفت في وجه الاستبداد، هي الفنانة التي غنّت للحرية، والطبيبة التي داوت الجرحى في الخفاء، والمعلمة التي زرعت بذور الوعي في عقول الصغار، والطباخة التي جعلت من أطباقها رسالة دعم للمحاصَرين والثوار، هي الشاهدة التي لم تخف من قول الحقيقة، والشهيدة التي دفعت حياتها ثمناً لحلم جماعي، إنها صانعة الأمل في أزمنة الخوف، وحارسة الذاكرة في زمن النسيان، تحمل في يدها الوطن، كما تشاء هي أن يكون: حراً، كريماً، وعادلاً.
 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية