
1
يحسّ بعض السوريين بنشوة، وهم يستمعون إلى زجليّة "دمشق لنا إلى يوم القيامة"، التي وردت في نظم، فشل في أن يرتقي إلى مقام الشعر في خطاب القسم لوزير الثقافة محمد صالح. لغة تنضح شعبويةً، صادرة عن رجل بيده مصير البلد ثقافياً، وليس عن شعار في لحظة يأس، يتوسّل صاحبه التعويض عن فترة من الإقصاء والتهميش.
دمشق ليست لأحد، كما كل المدن الكبرى، تصهر كل من أقام فيها أو عبر، وتقوده بما تمتلكه من قوة مدن التاريخ وسحرها. منها انطلق التبشير بالمسيحية، وانتشر الإسلام في العالم، وابتدأ "عزّ الشرق"، على حد قول الشاعر سعيد عقل.
هي ذات خصوصية، لكنها ليست منغلقة على ذاتها. منفتحة على قدر سعة صدور أهل الشام، وما تتسم به بضاعتهم من جودة، ولذلك لم تنجح مدينة في الشرق على منافستها، أو احتلال مكانها، ومصادرة مكانتها. كلما اعتراها وهن، نهضت من جديد بقوة، لتلقن الحاكم درس الجغرافيا، التي تصنع التاريخ.
ليس ضيق أفق فحسب، أن يدّعي بعضهم امتلاك دمشق إلى يوم القيامة. إنها صرخة صمّاء في برّية قاحلة، لا صدى لها، ترتطم بجدار من سوء الفهم، ولا تنتج سوى العقم والتيه الإنساني والثقافي.
2
حين تنزل الأكثرية عن مكانتها، بوصفها جماعةً بلا ضفاف، لتتحوّل إلى فريق يتمترس في حارة صغيرة، فإن ذلك يعكس خللاً في القراءة والحساب. يعني أن من يقرأ المرحلة يراها بطرف العين، وليس على مستوى اتساعها. يكتفي بأن يلقي نظرة عابرة، لا يتأمل المشهد من زواياه كافة، وبالتالي، ستكون نتيجة الحساب كارثية، لأنها لم تعتمد على تقديرٍ دقيقٍ للموقف. وقد سبق لبلدنا أن وقع في هذين المطبين الخطرين، ودفع ثمن ذلك من نهوضه العام، وتنميته، ووحدته الداخلية.
خسرنا حروبنا على مستوى الدفاع عن الوطن بوجه عدوٍّ احتل أجزاءً واسعة من أرضنا. لم ننجح بإقامة بنى اقتصادية متينة، تمكّننا من استقلال خياراتنا السياسية، وبقينا نعرج عدة عقود. ومنذ الاستقلال، ونحن أسرى تجارب ارتجالية لحكّام، أغلبهم من العسكر. والنتيجة اليوم أن سورية بلد ضعيف سياسياً واقتصادياً، وليس في وسعه الدفاع عن سيادته، أو تحقيق الكفاية في الطعام والماء والضوء.
ما لم نقرأ التاريخ جيداً لن تقوم لنا قائمة. سنظل ندور في حلقة مفرغة، طالما أننا لم نراجع، بحكمة، تاريخ الفشل، الذي بدأ مع جلاء فرنسا عن سورية منذ 80 عاماً. لن تحصل الصحوة من تلقاء ذاتها، إنها تحتاج قرارات استراتيجية، ممن بيده مفاتيح البلد.
تقف سورية اليوم عند اللحظة التاريخية الحرجة، التي سبق لها أن واجهتها في يوم الاستقلال عن فرنسا، ولأنها اختارت، في حينه، الطريق الخطأ، بقيت تراوح في مكانها، ولم تتقدم بشجاعة لمواجهة المصير.
3
لن نخرج من النفق بالطائفية والعشائرية والحزبية الضيقة، بل بالدولة الحديثة، ولن نخترع العجلة من جديد، فالحلول واضحة، وسبق لشعوبٍ عدّة أن عاشت وضعاً شبيهاً بالذي وجدت بلادنا نفسها فيه، بعد انهيار نظام بشّار الأسد في 8 ديسمبر (2024). لسنا بعيدين اليوم عما كان عليه حال إسبانيا والبرتغال، عندما أسقط شعبا البلدين ديكتاتورية فرانكو وسالازار.
أوجه التشابه كثيرة بين سورية وهذين البلدين، لجهة الاحتقان الداخلي، بسبب الدكتاتورية التي قسّمت المجتمع، وعلى صعيد الأحوال الاقتصادية المتردّية. وقد كان الحل الوحيد للنهوض هو العمل على طيّ صفحة الماضي، وفتح أبواب المستقبل، من خلال اتباع نهج الحكم القائم على ترك الشعب يقرّر مصيره عبر صناديق الاقتراع. وفي وضعنا السوري الهشّ، ليس المطلوب إجراء انتخابات، قبل إرساء البنية التحتية المناسبة، ويتطلب ذلك أن نتقدّم خطوة إلى الأمام، بوضع دستور ينظم الحياة السياسية، ويشرّع الحرّيات العامة والفردية، ويحترم حرية التعبير، وإنشاء وسائل إعلام مستقلة.
4
المطلوب من الإدارة الجديدة أن تتعامل بحرصٍ شديد مع الفرصة التاريخية التي بيدها، وتُحدث الفارق بسرعة، بينها وبين النظام السابق. وأبرز نقطة هنا ألا تفرّط بالتأييد الشعبي، الذي حازته بفضل إسقاط النظام، بل أن تعمل على تعزيزه، وفق أسس جديدة قائمة على الشفافية والثقة، وضمان حقوق المواطنين الأساسية في الأمن وحماية الأرواح، ووضع حدٍّ للفلتان واستباحة دماء سوريين أبرياء، وخصوصاً في الساحل. والخطوة الأولى إلى ذلك مغادرة منطق الغنيمة والثأر، وإنصاف ضحايا الأبد الأسدي.
