لميعة عباس عمارة... "هم يُسَمّونه الحبّ ظنّاً، ولستُ أُسَمّي"
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
 

أقيم للأخطل الصغير مهرجان تأبيني بقاعة الأونيسكو في بيروت أواخر سنة 1969، شارك فيه حشد من الشعراء: عزيز أباظة (مصر)، وعمر أبو ريشة (سورية)، وعبد المنعم الرفاعي (الأردن)، وأحمد السقاف (الكويت)، وسعيد عقل (لبنان)، ومحمـد الفيتوري (السودان)، وحسن عبد الله القرشي (السعودية)، وكمال ناصر (فلسطين)، وعبد الله الخوري (نجل الأخطل)، والشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، التي كانت الأقل شهرة وسط نجوم المنابر، وكانت قصيدتها الأقصر وسط المعلقات. مطلعها "أغنّيكَ لا أبكيكَ يخذلني شعري/ وما زلتَ ملء الحب واللحن والعطرِ"، بيد أنها جذبت إليها الانتباه بسبب رقّة إلقائها المفعم بأنوثة غنجة. 
في السابق تناوب معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري وحافظ جميل على تمثيل العراق في مثل هذه المهرجانات في بيروت، وقيل لي إن عبد الله الخوري هو الذي دعا لميعة عباس عمارة هذه المرّة، إذ بينهما صداقة متينة وإعجاب متبادل. ولاحقًا طالعت في قصيدتها "عتاب" المهداة إليه بالاسم، مستهلّها "تصاممت عبد الله، لا صافحت يدٌ/ ولا شعشعت خضرًا لحون على كأسِ"، وختامها "ولو كان عبد الله صبًا قطعته/ ونفّضتُ من لهو الصبا والهوى خمسي/ ولكن شقيق الروح نبلاً وعفّةً/ وأبعد عن لؤمٍ وأدنى إلى النفسِ/ ولو كان حبًّا بيننا هانَ صدّهُ/ وبِعتُ عبيد الله بالثمن البخسِ". 
اعترف بأنني لم أكن قد قرأت شعرها من قبل، لكن بلند الحيدري، الشاعر العراقي المقيم في بيروت آنذاك، أخبرني ما يكفي عنها. هي من جيل السياب ونازك الملائكة والبياتي. فاتنة دار المعلمين العليا في بغداد، فتاة أحلام زملاء الدراسة جميعهم. ابنة خال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، ومثله تنتمي إلى الصابئة المندائية. وتكرر ما قاله بلند الحيدري بألسنة أدباء وإعلاميين، وذهب بعضهم إلى ذكر اسم الشاعر بدر شاكر السياب بصفته أشهر عشاقها، وكان لها في قلبه أطول قصة حب عارم ومستحيل. 
كثيرة هي قصائد الغزل في دواوين لميعة عباس عمارة، لكنها لم تُشِر إلى السياب بالاسم، ولم تترك دليلا حاسما على أنه هو المقصود بهذه القصيدة أو تلك، عملاً ببيت لها تقول فيه "يسمونه الحب ظنًّا، ولستُ أسمّيه". أو قولها في قصيدة أخرى "ما همّني كم عاشق نسبوا لاسمي، وكم من شاعرٍ شبَّبْ". ولئن أهدته أيام الدراسة قصيدة "شهرزاد" وفيها "ستبقى ستبقى شفاهي ظماء/ ويبقى بعيني هذا النداء/ ولن يبرح الصدر هذا الحنين/ ولن يخرس اليأس كل الرجاء"، فليس فيها تصريح أكيد. بيد أنها في قصيدة "لعنة التميز" تذكر ما يُستنتج منه أن الرجل هو السياب وليس سواه: "يوم أحببتك أغمضت عيوني/ لم تكن تعرف ديني/ فعرفنا وافترقنا دمعتين/ عاشقا متّ ولم تلمس حدود الأربعينِ". ويُذكر أن السياب مات عن ست وثلاثين سنة. وللشاعر قصائد غزل جمّة، وأيضا لا يسميها، لكنه في قصيدة "سفر أيوب 8" يذكر لميعة باسمها: "ذكرتك يا لميعة والدجى ثلج وأمطار/ ولندن مات فيها الليل، مات تنفّس النور (...) ذكرت شحوب وجهك حين زمّر بوق سيارة/ ليؤذن بالوداع، ذكرت لذع الدمع في خدّي/ ورعشة خافقي وأنين روحي يملأ الحارة". 
وفيما كنت أتابع اكتشاف قصائد لميعة عباس عمارة، كنت على خط مواز أبحث في الموسوعات عن المقالات التي شرحت عقيدة الصابئة المندائية، فعرفت أنها ديانة إبراهيمية، هي المذكورة في القرآن الكريم، يؤمن معتنقوها بالله الواحد، على خلاف عقيدة صابئة حرّان القائمة على تقديس الكواكب والنجوم، ولذلك يفضّل أتباعها إطلاق تسمية المندائيين عليهم. نبيّ المندائيين هو يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا)، الذي اشتهر بالتعميد، ولهذا كان الغطس في الماء من أهم شعائرهم، يحرصون على تطهير نفوسهم من دنس الشهوات والارتقاء بها إلى عالم الروحانيات. من هنا حرصهم على السكنى بجوار الأنهر، ولكون العراق موطنهم تراهم منتشرين عند ضفاف دجلة. ومن طقوسهم منع تعدد الزوجات والختان، وتحريم الطلاق إلا بأمر القاضي. وقد اشتهر الكثير منهم بصياغة الذهب، ومنهم عباس والد لميعة، المولود في العمارة (اسمها أصبح لقب العائلة)، قبل أن ينتقل إلى بغداد حيث ولدت لميعة سنة 1929.  
وقد عبّرت لميعة عباس عمارة عن انتمائها إلى المندائية في قصيدة "هل نحن الأحياء؟"، المهداة إلى يوحنا المعمدان، "كان الصوت الصارخ في البريّة/ وا عجبي/ يسأل عني بين عباد الله/ مولاي أأنت هو؟/ ألفا عامٍ بين الصوت وبيني (...) يملأني صوتك مولاي (...) دماؤك من عسل النحل/ نقيّ من ماء الأردن/ أجئت تعمدنا بالماء؟ (...) أكبر من ماء الأردن خطايانا/ يسْوَدُّ إذا نزلت فيه الماء/ كل فتاة في بيتك سالومي/ كل امرأة هيرود (...) صوتك يحييني/ عمّدني بعماد إبراهيم الأقدم". وكما باللغة العربية الفصحى كذلك باللهجة العامية العراقية كتبت لميعة عباس عمارة من وحي معتقدها المندائي غزلاً بالنهر النقي الشافي استهلتها قائلة: "اشتاق لك يا نهر/ يا لـ بَرْدك الجنّة (يا مَنْ برده الجنة)/ صفصاف شَعري هِدَل/ وبمايك تحَنَّى" (بمائك). وختمتها بهذه الأبيات: "من نبعك للمصَبّْ/ فَيَّتْ (فيّأت) عليك قلوب/ يا ما رويت الغزل/ يا ما غسلت ذنوب/ ردّيت لك يا نهر/ يا الـ بردك الجنّة".  
كان لقائي الثاني مع الشاعرة لميعة عباس عمارة في زحلة بلبنان. كانت مدعوة للمشاركة بمهرجان شعري أقيم في المدينة يوم 17 أيلول/ سبتمبر 1971 بمناسبة نصب التمثال النصفي لأمير الشعراء أحمد شوقي تكريما لمن كتب عن المدينة واحدة من أجمل قصائده وأطلق عليها لقب "جارة الوادي". كان اللقاء في اليوم السابق للمهرجان في قاعة الفندق الذي أقامت به. كنتُ أصبحت أعرف عنها الكثير، وقد قرأت قصائدها. وفي تلك الجلسة تحاورنا حول آخر دواوينها المنشورة (حتّى ذاك) "أغاني عشتار". كانت الجلسة قصيرة لأنها كانت تشكو من أنفلونزا ألمّت بها. 
في اليوم التالي غصّت القاعة بالحضور، يتقدمهم رئيس الحكومة صائب سلام، وكان الموسيقار محمـد عبد الوهاب بين الجمهور والسيدة نعمة الله رياض حفيدة أحمد شوقي. كان الجمهور يعرف لميعة عمارة، وهي عرفت بإلقائها الرقيق كيف تنال الإعجاب منذ الأبيات الأولى: "وفّيت زحلَ أميرك المُعْجَبْ/ نصباً يُشاد ومربضاً يرحبْ/ يا جارة الوادي التي سكرت/ من خمرها الدنيا. اسكبي، نشربْ/ هل مرّ طيرٌ عبر كرمكمُ/ لم يُغوه؟ أو عاد لم يطرب؟/ لبنان صدر الأرض أرحبها/ غوث الطريد وواحة المُتعَب/ أدمنتُ حبّكم، فما أعذب/ يا أسْركم! لا أشتهي مَهرَب". 
فيما بعد ألِف الجمهور اللبناني حضور  لميعة عباس عمارة في المهرجانات الشعرية. كان المهرجان الثالث مقرراً لتكريم الشاعر أمين نخلة في 15 نيسان/ إبريل 1973 في بيروت في قصر الأونيسكو، ودُعيت إليه مجموعة من الشعراء العرب، بينهم لميعة عباس عمارة. لكن المهرجان لم يُقَم بسبب اغتيال كمال ناصر قبل خمسة أيام، في الجريمة التي نفّذها الموساد الإسرائيلي في شارع فردان في بيروت؛ وكان المناضل الشاعر مدعواً لإلقاء قصيدة باسم فلسطين. كانت قد صاغت قصيدتها، وبَنَتْها على نسق معارضة شعرية لقصيدة أمين نخلة الشهيرة "الحبيب الأول" التي مطلعها: "أحبك في القنوط، وفي التمنّي/ كأني منك صرتُ، وصرتَ منّي"، فكتبت: "مَداكَ اليوم فوق مدى التمنِّي/ فخُذْ ما شئتُ لا ما شئتَ منّي/ عيوناً نحـو صـمتـكَ شاخـصاتٍ/ وقلباً خاشـعاً وفماً يُغنّـي/ وأنت – يقالُ – شيخٌ مُطمئنٌّ/ ولا، هيهات، لستَ بمـُطمئنِّ". وفي أبياتها الختامية: "أمينَ (الأرزِ) كلُّ النخل حَيّا/  وتهتفُ كلُّ واحدة: هو ٱبني/ أبا اللـّمحِ الشفيفِ لأنتَ عندي/ سَناً أدنى إليَّ بلا تـَدنّ/ كما لـُبنانُ يَغمُرُني فأُشفى/ ويَبعثُ نـَشوةَ الوترِ الـُمرِنِّ". (الوتر المرن اقتباس من تعابير أمين نخلة، والشيخ المطمئن بناء على "الشباب المطمئن"). 
ثم كان صعود لميعة عمارة إلى المنبر في بعلبك يوم احتفلت مدينة الشمس بإزاحة الستار عن تمثال للشاعر خليل مطران في مسقط رأسه. كان ذلك يوم 30 أيلول/ سبتمبر 1973. كنتُ بين الحضور الذين تقدمهم رئيس الحكومة تقي الدين الصلح. بدأت الشاعرة قصيدتها بالأبيات التالية: "لي عرشٌ منكم، ولي صولجانُ.. وهواكم على الهوى سلطانُ/ أنثر الحبّ والسعادة ما  سِرْتُ .. فآثار كلّ خطوي جنان/ سألوا -  تسألُ الليالي عن  الفجر -  (لماذا يحبّها  لبنان؟)/ أهو ذنبي إذا أحبّتني الناس؟ وذنبي تخيّرتني اللجان؟/ أوَلبنان من  يجوز عليه زائف  النقد، أو يَغُرُّ الِدهان؟". ولم أفهم آنذاك لماذا بعد الاستهلال الودود تطرّقت لميعة عباس عمارة إلى اللجان وزائف النقد والمداهنة؟ وبعد المهرجان سألتها عن مغزى الحديث عن هذه الموضوعات، فأماطت اللثام. قالت: نُمي إلى علمي أن الشاعر سعيد عقل حاول إقصائي عن المشاركة، لكن المشرف على المهرجان نقيب الصحافة رياض طه ونائبه المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك أصرّا على مشاركتي. ولهذا أردت أن أغمز من قناة الشاعر وأردّ له "التحية"! 

وفي عام 1974 قررت الدولة اللبنانية منح لميعة عباس عمارة وسام الأرز "تقديراً لمكانتها الأدبية، ولشعرها عن لبنان وما سعت إليه من نسج أواصر المحبة والصداقة بين لبنان والعراق". لكن الشاعرة كانت في باريس، وقبل موعد حضورها اندلعت الحرب في لبنان، فتأخرت عودتها إلى بلاد الأرز سبعة عشر عاماً. وبعد نيلها الوسام، كتبت قصيدة عن بيروت ممتلئة محبة تجاه لبنان وأهله. استهلتها قائلة: "نبّهتُ عيني من شكٍّ لأسألها/ بيروت هل فارقتني كي أعود لها"، وختمتها بالأبيات التالية: "قصيدةٌ أنت يا بيروت مبهمةٌ/ ما قالها شاعر، لكن تخيّلها/ أراد معجزةً في الفن خالقُها/ فَلَمَّ من أجمل الأشياء أجملها/ وصبّ من روحه في ناسها أَلَقا/ وحين أكملها، صلّى  وقَبّلها". 
كان اللقاء التالي في ألمانيا سنة 2003، يومها جاءت لميعة عباس عمارة إلى برلين مدعوة من مجلة "الديوان" المختصة بالشعر، وشاركت في مهرجان كبير مع كوكبة من الشعراء: أدونيس ومحمود درويش وأمجد ناصر وعبده وازن وأمل الجبوري (منظّمة المهرجان)، وعباس بيضون ووديع سعادة. مازحت لميعة عباس عمارة الجمهور فور وقوفها خلف الميكروفون بكلمات ألمانية تعلّمتها خصيصاً، كما ودعته بلغة غوتة. في اليوم التالي رافقتها في جولة سياحية في أنحاء برلين. وكان ذلك آخر لقاء بيننا. هي عادت إلى الولايات المتحدة الأميركية التي كانت قد هاجرت إليها واستقر بها المقام عند ولدها في مدينة سان دييغو بولاية كاليفورنيا، حيث ظلت مقيمة إلى حين وفاتها في الثامن عشر من يونيو/ حزيران عام 2021 عن اثنين وتسعين عاماً. 
ظل التواصل بيننا عبر المكالمات الهاتفية. كنت أنقل إليها أنباء الأدب والأدباء في العالم العربي، وبالبريد الإلكتروني بعض المقالات. وفي السنة الأخيرة أخبرتني بأن نظرها شحّ وأن ابنها يقرأ لها. مراراً عبرت عن حنينها إلى بيروت وزحلة، وإلى بغداد طبعاً. 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية