أنقرة الجميلة... مدينة ظلمتها السياسة رغم كنوزها السياحية
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

آثر مؤسس الجمهورية التركية عام 1923، مصطفى كمال أتاتورك، القطيعة مع الماضي العثماني الذي تعجّ به مدينة إسطنبول، فهرب من السلاطين وقبورهم وقصورهم وحكاياتهم، وأعلن، بعد عزل محمد السادس، آخر السلاطين العثمانيين وإلغاء الخلافة، أنقرة العاصمة بدلاً من القسطنطينية التي أبدل اسمها إلى إسطنبول في عام 1930.
لكن أتاتورك لم يفلح في تحويل أنقرة إلى مركز سياحي وتجاري، كما إسطنبول، ولم يستطع تسويقها خارجياً، كما أنطاليا أو مدن البحر الأسود، أو حتى مدينة إزمير الساحلية. حتى على صعيد قصر الرئاسة، لم تدم إقامات الرؤساء بقصر تشانكايا الذي جُمعت تبرعات لبنائه وفق اقتراح مفتي مدينة أنقرة حينها، ليحاكي القصور العثمانية سواء في أدرنة أو إسطنبول، إذ عادت إسطنبول نفسها لاستقبال الزيارات الرسمية عبر قصور توب كابيه ويلدز، ودولما بهشه العثمانية، والتي تجذب السياح أيضاً.

منعت أسباب عدة بروز أنقرة، أهمها عدم إدراجها ضمن برامج الترويج السياحي كما إسطنبول أو أنطاليا أو طرابزون أو كبادوكيا

ورغم بناء الرئيس رجب طيب أردوغان المجمع الرئاسي في أنقرة الذي يطلق عليه اسم "القصر الأبيض"، على مساحة 207 آلاف متر مربع، ببصمات العمارة العثمانية والسلجوقية، واحتوائه على نحو 1000 غرفة ومسجد ومكتبة الأمة وحدائق ومراكز ترفيهية وثقافية، لم تزل إسطنبول تحظى بزيارات كبار الشخصيات.

ومن يدقق في حياة الرئيس أتاتورك، يلاحظ أهمية اسم عصمت إينونو، وهو وريثه في حكم تركيا، وعلى الأرجح، من حرّض لنقل العاصمة إلى أنقرة. وتشير وثائق تركية إلى أن قرار تغيير العاصمة في 29 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1923 جاء بقرار اتخذته الجمعية الوطنية الكبرى بطلب من وزير الخارجية إينونو، و14 نائباً، بعدما استقبلت المدينة الصغيرة حينها، أعضاء البرلمان العثماني والجنرال أتاتورك كي يخططوا لحرب الاستقلال بعدما احتل الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية إسطنبول.

وشهدت أنقرة بعدها انعقاد البرلمان وانتقال العاصمة إلى وسط الأناضول، ثم أصبحت عاصمة الجمهورية التركية بعدما وافق أتاتورك، كي يهرب من إرث العثمانيين وربما من اتساع القسطنطينية وتنوعها الديمغرافي والعرقي، باعتبار أن العديد من العرقيات مثل الأرمن والأكراد واليونانيين عاشوا فيها. وأما عند أتاتورك فمثّل هذا النسيج الديمغرافي المتنوع تهديداً للسلطة في حال اعتماد القسطنطينية عاصمة للجمهورية التركية

لكن أنقرة ليست مدينة استحدثها أتاتورك، رغم أنه يُنسب إليه توسيعها. وتقول المصادر إنّ "أنكور" أو "أنكورة" حظيت بمكانة مهمة عبر التاريخ، ومثلت أثناء فترة الحيثيين، مع المناطق المحيطة بها، منطقة تجارية مهمة، كما اعتمدها الغلاطيون عاصمة لهم خلال القرن الثالث قبل الميلاد.

ليست أنقرة مدينة استحدثها أتاتورك، بل حظيت "أنكور" أو "أنكورة" بمكانة مهمة تاريخياً

ومع ضمها إلى مناطق نفوذ الإمبراطورية الرومانية أثناء فترة أغسطس قيصر، كسبت "أنكورة" مكانة مهمة بوصفها مركزاً تجارياً وثقافياً، وتواصل إشعاعها الإقليمي قروناً أثناء عهد الدولة البيزنطية، حتى وقعت في قبضة العثمانيين في منتصف القرن الرابع عشر أثناء فترة حكم السلطان أورخان.
وتشير المصادر إلى أن اسم "أنكورة" أطلقه عليها حكامها الفريجيون الذين ازدهرت في زمنهم (نحو 1000 سنة قبل الميلاد)، كما عرفت باسم "أنكيرا"، ويعود تاريخ تأسيسها إلى زمن الحضارة الحيثية خلال العصر البرونزي، وشهدت المدينة توسعاً آخر على يد الإغريق الذين قدموا إليها نحو 300 قبل الميلاد، حيث شكلت نقطة تبادل تجاري للبضائع بين منطقة البحر الأسود والأناضول وبلاد الشام وبلاد فارس وأرمينية، ثم أخذت أنقرة مكانتها باعتبارها عاصمة ثانية للدولة البيزنطية في أواخر القرن الرابع الميلادي، حين أصبحت منتجع الأباطرة الصيفي، فكانوا يهربون إليها من حر القسطنطينية ورطوبتها.
واستمر التركيز على أنقرة بعد اتساع حركة الفتوحات الإسلامية، إذ تناوب المسلمون والبيزنطيون السيطرة على المدينة عدة مرات، واستمرت أهميتها النابعة من موقعها الاستراتيجي باعتبارها ملتقى طرق عدة.
وتقع أنقرة التي دفن فيها الشاعر العربي الشهير امرؤ القيس في وسط تركيا، ويحدّها من الشرق قيريق‌ قلعة، ومن الشمال الشرقي تشانكيري، ومن الشمال الغربي بولو، ومن الغرب أسكي شهير، ومن الجنوب قونية، ومن الجنوب الشرقي قرة شهير وأق سراي.
وتطورت أنقرة بعدما أصبحت عاصمة، لتشهد هجرة واسعة من الباحثين عن العمل والدراسة، من تركيا ومن خارجها، بعدما ضمت أهم الجامعات وأكبرها، مثل جامعة أنقرة، وغازي، وحجة تبة، والشرق الأوسط التقنية، ويلدريم بايزيد الحكومية، فضلاً عن جامعات خاصة مثل أتاليم، وباشكنت، وبيلكنت، وتشانكايا، وزاد عدد سكانها من 45 ألفاً حين سُميت عاصمة إلى نحو 6 ملايين نسمة اليوم.

استمر التركيز على أنقرة بعد اتساع حركة الفتوحات الإسلامية، وتبادل المسلمون والبيزنطيون السيطرة عليها مرات عدة

ويتكرر السؤال عن سبب عدم بروز أنقرة قبلةً سياحية رغم وجود المقومات والمراكز الرسمية والمجمع الرئاسي، وأيضاً رغم المحاولات التي بذلها قادة الدولة السابقون، وكذلك الرئيس أردوغان، عبر بنائه جامع "مليكة خاتون"، والمكتبة الوطنية، والقصر الرئاسي، فضلاً عن ما يعرف عن أنقرة من أجواء ساحرة، وهدوء تفتقده المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنطاليا وإزمير.
يقول محمود ألتن باش، وهو صاحب شركة سياحية بإسطنبول، لـ"العربي الجديد": "منعت أسباب عدة بروز أنقرة، أهمها عدم إدراجها ضمن برامج الترويج، كما إسطنبول أو أنطاليا، أو طرابزون وكبادوكيا. إذا نظرنا إلى الآثار والجمال، تستحق الولايات الـ81 التركية الزيارة والترويج. ربما تبعد الصورة النمطية الرسمية والبيروقراطية والأمنية للعواصم أيضاً السياح عن أنقرة، رغم أنها مدينة جميلة وهادئة تزخر بمعالم تاريخية وأحياء قديمة وأسواق عريقة، وهذا ما يجذب السياح غالباً".
وتحتوي أنقرة على معالم تاريخية وأثرية كثيرة، فعلى صعيد المتاحف، تضم متحف الحمّام الروماني، ومتحف الإثنوغرافيك ومتحف الحضارات الأناضولية، وهناك القلعة الشهيرة التي تعود إلى أكثر من 3000 عام، وتوجد في داخلها قرية مزدحمة بالسكان، وشيّد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني جدران القلعة. وأيضاً هناك برج أتاكولي، وهو برج للاتصالات والمراقبة بُني عام 1989.

ورغم أن عدد مساجد أنقرة لا يقارن بإسطنبول التي تضم نحو 3300 مسجد، لكنها تتمتع بأهمية تاريخية وعمرانية، ومن بينها مسجد كوجاتيبي، ومسجد مليكة خاتون، ومسجد حجي بيرام، وهي تقع إلى جوار كنيسة أغسطس التي بنيت في القرن الأول في عهد الإمبراطور أغسطس حين أعلنت أنقرة عاصمة لمقاطعة غلاطا الرومانية. وربما يشكل وجود ضريح أتاتورك الذي تحول إلى متحف وطني، إلى جانب مجمعي أرمادا وكينتبارك التجاريين، والحمامات الرومانية عوامل جذب إضافية.
وكي لا تظلم أنقرة عبر حصر معالمها بحجارة تاريخية، فهي تزخر بحدائقها المائية، وجبل ألماداغ الشهير للتزلج، وبحيرة مافي، وأيضاً بوجبات طعام خاصة بها، أهمها أكلة السلاطين "بي بازاري كوفيجي"، وهي تتكون من أرز ولحم وخضار تطبخ بالفخار، ووجبة "أولوغون كورو"، وهي نوع من المعكرونة الخاصة بأنقرة، وشوربة "إنجيز" باللحم والقمح والحمص، فضلاً عن "أنقرة طاوا" التي تعد وجبة طعام خاصة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية