جلود الأضاحي... كنز العيد المُهدر في شوارع مصر
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

بينما تصدح مكبرات الصوت في مختلف أرجاء مصر بتكبيرات عيد الأضحى، وتفوح رائحة شواء اللحم من فوق أسطح البيوت، تبدأ خلف هذا المشهد حركة أخرى أكثر صخباً، لكنها لا تحظى بكثير من الضوء. إنها حركة "تجار موسميين لجمع جلود الأضاحي"، أولئك الذين ينطلقون على دراجاتهم البخارية، أو في سيارات متهالكة، بحثاً عن رزق في شراء المادة الخام اللازمة للدباغة.

في حي بحري الشعبي بالإسكندرية شمالي مصر، كان الثلاثيني محمود عبد الرحيم يلف شوارع الحي بدراجته النارية الصغيرة، وقد ربط خلفها عربة حديدية مغطاة بجوالات من الخيش. كلما لمح ذبيحة وقد اكتملت عمليات سلخها، توقف وسأل أهلها: "الجلد لله ولا للبيع؟". يعرف أن الوقت ضيق، وأن عليه أن يسبق غيره من الساعين خلف الفراء نفسها.

يقول عبد الرحيم لـ"العربي الجديد": "نحن نسابق الزمن.. إن ترك الجلد قليلاً، تعفن، وأصبح بلا قيمة.. وكل عام تزداد أعداد الباحثين عنه، والناس أصبحوا يعرفون قيمة هذه الجلود، لم تعد التبرعات كما كانت سابقاً".

على بعد أمتار، يتفاوض عبد الرحيم مع صاحب أضحية على شراء الجلد، بينما يحاول صاحب الذبيحة رفع السعر قليلاً: "هذا جلد بقري، مدابغ الروبيكي (في مدينة بدر شرق القاهرة) تدفع جيداً له". فيجيبه عبد الرحيم: "هذا لو كان نظيفاً، فيه شقوق، ونحن ندفع أجرة النقل والتمليح كي نحفظه".

ويُصرَّح للمواطنين كافة ذبح الأضاحي الخاصة بهم داخل المجازر الحكومية المعتمدة بالمجان، خلال الفترة من أول أيام عيد الأضحى وأيام التشريق الثلاثة، فيما تنتشر في المنازل أو الشوارع شوادر ومحلات للذبح العشوائي، خصوصاً في المناطق الشعبية من قبل أشخاص عاديين لا يملكون الخبرة الكافية في عملية السلخ، ما يعرّض جلد الأضحية للتلف.

ووفقاً لبيان صادر عن محافظة الإسكندرية، تتولى مديرية الطب البيطري بالتنسيق مع مديرية التموين والأجهزة المعنية تكثيف الحملات التفتيشية، للتأكد من أن عملية الذبح جرت في المجازر الحكومية المعتمدة، للحفاظ على صحة المواطنين، وفي حالة المخالفة يُغلَق المحل أو المنفذ لمدة 60 يوماً، ويُحرَّر محضر بالواقعة مع الإحالة على النيابة المختصة وسداد الغرامات التي نص عليها القانون.

وداخل زقاق ضيق في حي الورديان غربي الإسكندرية، يفرش الشاب مصطفى قطعة سوداء كبيرة من البلاستيك على الأرض، ويضع عليها ثلاثة جلود حصل عليها منذ الصباح. بجواره جوال كبير من الملح الصناعي، ينثر منه كفاً فوق كل جلد لحفظه من التعفن. يقول مصطفى: "أعمل سواق توك توك (عربة من ثلاث عجلات) طول السنة، لكن في العيد أترك مهنتي مؤقتاً وأنزل أشتغل في الجلود. فيها تعب كبير، بس فيها فلوس كويسة". مصطفى، كغيره من مئات الشباب، لا يملك ترخيصاً لممارسة هذه المهنة، ولا يعرف أين تنتهي الجلود بعد بيعها لتجار أكبر منه. يقول: "نحن حلقة صغيرة. نأخذ من صاحب الذبيحة، ونبيع لتاجر جملة، وهو لديه زبائنه في المدابغ".

ومع غروب شمس اليوم الأول من عيد الأضحى، أو خلال أيام التشريق الثلاثة، يعود كثير من باعة الجلود الصغار إلى منازلهم متعبين، لكن راضين ببضع مئات من الجنيهات جنوها بعد ساعات من التنقل والتفاوض. يعرفون أن السوق لم يعد كما كان، وأن التنافس صار شرساً، لكن لا يزال في المهنة ما يغري بتكرار التجربة في العام المقبل. وفي بعض الأحياء الراقية، تأخذ القصة منحىً مختلفاً. تتحرك سيارات تابعة لجمعيات خيرية، تحمل لافتات "تبرع بجلد أضحيتك.. دعماً للمحتاجين".

وتقول سمية وهيب، مسؤولة إحدى تلك الجمعيات، إنهم يستفيدون من بيع الجلود لتمويل أنشطة الجمعية ودعمها، وخصوصاً شراء لحوم أو أدوات مدرسية للأسر الفقيرة". وتضيف: "نوعّي الأهالي بعدم جواز بيع تلك الجلود من الناحية الشرعية، ونحذرهم من خضوع تجارة الجلود للمضاربة والعشوائية، ونوفر متطوعين بدلاً من عمال اليومية الموسميين الذين يبحثون عن دخل سريع، دون معرفة بسلاسل التصنيع أو الاشتراطات الصحية".

تجارة جلود الأضاحي في مصر تعد نشاطاً موسمياً يزدهر خلال أيام العيد، وخصوصاً في الأول والثاني من أيام النحر، لكنه تدهور خلال السنوات الماضية بسبب ضعف الطلب على شراء الضحية، فضلاً عن إحجام الناس عن التبرع بها للجمعيات الخيرية كما كان معتاداً"، وفق رجب السعدني، تاجر جلود يعمل في نطاق الإسكندرية.

يوضح السعدني لـ"العربي الجديد": "في العادة، تستقبل المدابغ كميات ضخمة من الجلود بعد العيد، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً في الجودة والكمية، ويرجع ذلك إلى سوء التخزين، وتأخر الجمع، وترك الجلود في الشمس، أو تعفنها بسبب عدم استخدام الملح الكافي".

ويضيف أن أسعار جلود الأضاحي التي تشهد رواجاً خلال فترة عيد الأضحى، في تزايد مستمر بسب التضخم الذي طاول كل شيء، موضحاً أن "الأسعار تختلف حسب النوع (خروف أو بقري أو جاموسي). وقبل ثماني سنوات، كان جلد الحيوان يباع بـ100 جنيه أو أكثر، لكن اليوم قد يصل إلى أكثر من 700 جنيه للقطعة (الدولار يساوي 50 جنيهاً تقريباً).

ويُجمع الخبراء على أن موسم عيد الأضحى لا يمثل شعيرة دينية كبرى فقط، بل أيضاً فرصة اقتصادية نادرة تُهدر كل عام لعدم الاستفادة المثلى من جلود الأضاحي عبر دخولها في صناعة منتجات تصلح للسوق المحلية أو تصديرها إلى الخارج، ما يزيد من الحصيلة الدولارية للبلاد.

يوضح رئيس المجلس التصديري للجلود، محمود سرج، أن الكميات المنتجة من الجلود خلال العيد، إلى جانب ما يُجمع في شهر رمضان، تعادل ما تنتجه مصر من الجلود في بقية شهور السنة مجتمعة، ما يجعل هذه المواسم أشبه بـ"ذروة إنتاج قومي" لا تجد من يلتقطها.

لكن ما يحدث على الأرض لا يعكس هذا الكنز الموسمي، بحسب سرج، الذي يحذر من أن استمرار الذبح خارج المجازر المتخصصة يتسبب في فقدان نسبة كبيرة من الجلود. فغياب الاشتراطات الفنية في الذبح العشوائي، والتقطيع غير المهني للجلود، يؤديان إلى إهدار ما يصل إلى 75% من القيمة الممكنة لهذا المورد.

ويضيف في تصريحات صحافية، أن الجلود باعتبارها ثروة قومية، يجب التعامل معها من لحظة الذبح باحتراف، وهو ما يستدعي توافر مجازر حديثة وآمنة مؤهلة لتقديم الذبح وفق المعايير، مؤكداً أن تحسين جودة الجلود المصرية يبدأ من السكين الأولى التي تقطع الأضحية، وينتهي عند خطوط التصدير في مدينة الروبيكي للجلود.

ويشدد سرج على ضرورة وجود تشريعات صارمة تُجبر على الذبح داخل المجازر الرسمية، وتمنع الممارسات العشوائية التي تُفقد الصناعة قدرتها التنافسية عالمياً، إلى جانب إطلاق حملات توعية للجزارين والمواطنين، تشرح لهم الأثر الكبير للذبح المهني في الحفاظ على الجلود وتحويلها إلى مصدر دخل قومي.

ويرى عضو مجلس إدارة شعبة الأحذية والمصنوعات الجلدية فى الغرفة التجارية بالإسكندرية، محمد أبو الخير، أن غياب التنظيم الرسمي لتجارة الجلود خلال عيد الأضحى، وتصاعد مشكلة الممارسات الخاطئة للباعة الجائلين كل عام، وعدم مراعاة اشتراطات التصدير الجديدة التي لا يتقنها العاملون في المجال، تضيع على الدولة فرصة استثمار حقيقية.

ويؤكد أبو الخير في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن عيد الأضحى من المواسم المهمة التي ينتظرها عمال وأصحاب مدابغ الجلود في مصر، مشدداً على ضرورة إقامة منطقة صناعية للجلود تكون قريبة من المدينة لسهولة تدبير الأيدي العاملة، وتكون مخصصة للصناعات الجلدية.

ويقترح أن تُكلَّف هيئات محلية جمع الجلود مباشرة من المواطنين، أو منح تراخيص مؤقتة لتجار موسميين، مع توفير تدريبات سريعة على حفظ الجلد. كذلك يمكن إطلاق تطبيق إلكتروني يُسجَّل فيه المتبرعون بالجلود، وتُربط الجمعيات المعتمدة أو الجهات الحكومية بمواقع الذبح، لتقليل الهدر وتنظيم سلسلة الإمداد.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية