نزع السلاح الفلسطيني في لبنان بين الرمزية والمخاوف
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

شهد الملف الفلسطيني في لبنان أخيراً نقطة تحوّل مهمة بعد زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس بيروت في الـ21 من الشهر الماضي (مايو/ أيار)، والتي أكّدت أهمية الشروع في خطوات تنفيذية حقيقية لمعالجة ملف السلاح في المخيمات وٳنهاء الحالة المسلّحة ضمن إطار احترام السيادة اللبنانية، مقابل ضمان حقوق الفلسطينيين وتحسين الأوضاع الاجتماعية للمدنيين، وتحويل المجتمع الفلسطيني ٳلى مجتمع مدني يخضع لمنطق القانون اللبناني والعدالة الرحبة.

في هذا السياق، بدأت اجتماعات اللجان المشتركة بين الفصائل الفلسطينية والسلطات اللبنانية مقدمة لوضع خطة نظامية، على أن يبدا العمل في منتصف يونيو/ حزيران الجاري في مخيمات بيروت. ثم ينتقل ٳلى مخيمات البقاع والشمال، ولاحقأ ٳلى مخيمات الجنوب الأكثر تعقيداً، مع وعود بتعزيز الخدمات المدنية وتحسين البنى التحتية في المخيمات جزءاً من إيجاد بيئة آمنة ومستقرّة، وفتح قنوات دائمة للحوار لتهدئة الأجواء وبناء جسور الثقة فرصة تاريخية لتعزيز الاستقرار المشترك.

يعود الملف إلى الواجهة في سياق ضغوط دولية وٳقليمية جزءاً من مقايضةٍ أوسع تمتد من غزّة ٳلى الأردن وسورية ولبنان وطهران مع تحذيرات من استخدام الأراضي اللبنانية في عمليات عسكرية ضد ٳسرائيل (اعتادت الأخيرة على تحريض اللبنانيين على الفلسطينين بأنهم عامل مزعزع للأمن والاستقرار)، وبعد توجيه مجلس الدفاع الأعلى نتيجة تزايد الأحداث الأمنية والسياسية في مخيمات الجنوب، ووجود قلق من تفجر الأوضاع في مناطق أخرى.

السلاح تذكير دائم بحق العودة، وبأن القضية الفلسطينية لم تُحسم، وأن اللاجئ ما زال جزءاً من النضال

تسعى الحكومة اللبنانية ٳلى البناء على الخطوة التي أطلقتها الشرعية الفلسطينية، الأمر الذي جرى تجاهله مرّات نزولاً عند رغبة حزب الله للٳبقاء على وظيفة السلاح داخل المخيّمات وخارجها، حيث يتوزّع الفلسطينيون على 12 مخيّماً بأحجام مختلفة في محافظات لبنان، لكن التنفيذ قد يصطدم بعقبات حقيقية.

يتقاطع ملف السلاح الفلسطيني في لبنان مع أبعاد سياسية، ديمغرافية، أمنية وإنسانية، تجعله نقطة توتّر حقيقية بين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة، وبين الفلسطينيين أنفسهم. وتثير مسألة السلطة الفلسطينية، وتحديداً حركة فتح، تحفظات فصائل فلسطينية تتبنى مواقف سياسية وأيديولوجية مختلفة. والمفاوضات الجارية مع المجموعات الٳسلامية الجهادية محدودة التأثير، وهي ترفض تسليم سلاحها. ورغم ٳبداء حركة حماس انفتاحها على "أي أمر يؤدّي ٳلى استقرار لبنان"، فٳنها تعتبر عبّاس يمثل السلطة في رام الله، وتدعو ٳلى التشاور والحوار معها. لم تبد حركتا حماس والجهاد الإسلامي التزاماً واضحاً بالخطة، ولم تعقدا أي لقاء مع الوفد الفلسطيني الموجود حالياً في لبنان، ولا مع "فتح"، لمناقشة نزع السلاح، وتسببت زيارة عبّاس ببلبلة، وأثارت جدلاً داخل حركة فتح نفسها، ما يثير تساؤلاتٍ بشأن إمكانية تنفيذ الخطة بشكل شامل.

ليس السلاح الفلسطيني في لبنان مجرّد أداة عسكرية، بل يحمل رمزية عميقة ترتبط بالهوية الوطنية والذاكرة الجماعية للفلسطينيين، ويرمز إلى حق مقاومة الاحتلال الٳسرائيلي، والحفاظ على الكرامة الوطنية رغم سنوات اللجوء والشتات. والسلاح (من دون التدقيق في حجمه ونوعيته) تذكير دائم بحق العودة، وبأن القضية الفلسطينية لم تُحسم، وأن اللاجئ ما زال جزءاً من النضال، والسلاح وسيلة للدفاع الذاتي عن النفس، رمزاً للصمود، ورسالة سياسية مفادها أن الفلسطينيين ما زالوا حاضرين، وأن محاولات محوهم وتهميشهم لن تمر بسهولة.

مآسي "صبرا وشاتيلا" عام 1982 لا تزال راسخة في الذاكرة، وتمثل جرحاً لم يندمل في الوجدانين، الفلسطيني واللبناني

يجعل هذا البعد الرمزي أي محاولة لنزعه حساسة للغاية، حيث لا تتعلق فقط بأمن لبنان أو النظام، بل تمسّ جذور الهوية والنضال الفلسطينيين. وهو يعكس، في الأصل، حالة لجوء قسري وظروف استثنائية فرضتها النكبة عام 1948، وتطورت مع اتفاق القاهرة (1969) الذي سمح للفصائل الفلسطينية باستخدام الأراضي اللبنانية قاعدة انطلاق ضد إسرائيل، ما أسّس لوجود مسلح مستقل فاعل، خصوصاً في بيروت والجنوب، استمر بعد خروج منظمّة التحرير من بيروت في 1982. وكان اتفاق الطائف (1990) قد نصّ على حصر السلاح بيد الدولة، لكن السلاح داخل المخيمات استثني عملياً.

تطالب الدولة اللبنانية اليوم بالحصريّة، وترى، مع بعض المجتمع الدولي والعربي، فيه عائقاً قبل الشروع بمرحلة ٳعادة الٳعمار والنهوض والتعافي والٳصلاح. وتتداخل أحياناً الأوضاع الفلسطينية مع الأزمة السورية، مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين يقطنون في مناطق مجاورة أو داخل المخيّمات الفلسطينية، ما يشكل خليطاً بشريّاً معقداً (85% من اللبنانيين والسوريين في مخيمي شاتيلا والبداوي)، ومع جزر أمنية انتشرت فيها مظاهر العنف والاتّجار بالمخدّرات، إلى جانب تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية.

من جهة أخرى، ينظر حزب الله إلى ملف السلاح الفلسطيني "مقدمة" أو "اختباراً" لنزع سلاحه، وهو في موقف مزدوج. يفضل التهدئة وعدم فتح الملف بقوة لتجنّب فتح الباب على ملف سلاحه. يدعو إلى حوار داخلي، ولا يُمارس ضغطاً حقيقياً. لكنه لا يعارض التفاوض، ما يعني أن التفاهمات محصورة بـ"المقبول فلسطينياً" و"غير المحرج للحزب"، الذي يهدّد السلطة بلجوئه ٳلى"خياراتٍ أخرى". وهو يعوّل على"استراتيجية دفاعية" لا تحمل عنوان تسليم سلاحه. ويعمّق هذا الموقف الجمود السياسي، ويحول دون فتح نقاش حقيقي ومتوازن حول تنظيم السلاح في مرحلة من الحرب الٳسرائيلية لم تنته في العدوانيّة والقصف والاحتلال. ويخشى ايضاً أن يلتحق مسار التخلص من أزمة النزوح واللجوء السوري بمسار نزع سلاح الحزب، ومخاوف من الفوضى والفراغ... وهناك إشارات إلى ضغوط دولية (أوروبية وخليجية) تُمارس لٳحتواء السلاح الفلسطيني جزءاً من ترتيبات أمنية أشمل في المنطقة.

السلاح خارج نطاق الدولة، سواء الفلسطيني أو اللبناني، من أكثر الملفات تعقيداً، وٳن اختلفت مقاربة كل واحد على حدّة، ولكل ملف خصوصياته وأبعاده

يتساءل الفلسطينيون في لبنان كيف يمكنهم ضمان ألا يكونوا ضحايا مجدّدين في لعبة السياسة والأمن اللبنانية؟ ومآسي "صبرا وشاتيلا" عام 1982 لا تزال راسخة في الذاكرة، وتمثل جرحاً لم يندمل في الوجدانين، الفلسطيني واللبناني. مخاوف مثل هذه مشروعة، خصوصاً في ظل الواقع الذي يشير إلى تفوق عدد اللبنانيين الحاملين السلاحَ (أربعة ملايين لبناني)، فيما تفيد نتائج مسح أجرته ٳدارتا الٳحصاء المركزي في كل من لبنان وفلسطين في 2017 بانخفاض في أعداد الفلسطينين ٳلى نحو 175 ألفاً، ما يشبه انسحاباً فلسطينياً من لبنان بسبب الهجرة والسفر والفقر والبطالة والتهميش، الخوف من صراعات داخلية وغياب ضمانات واضحة تعيد الاعتبار للمؤسسات الفلسطينية الرسمية في لبنان، التي تحمي الفلسطينيين من أي تدخّل أمني قاسٍ.

السلاح خارج نطاق الدولة، سواء الفلسطيني أو اللبناني، من أكثر الملفات تعقيداً، وٳن اختلفت مقاربة كل واحد على حدّة، ولكل ملف خصوصياته وأبعاده التي ترتبط بتاريخ وجغرافيا وصراعات إقليمية لا يمكن تجاهلها، أو حلها ضمن حزمة سياسية واحدة. ونزع السلاح من دون ضمانات قانونية وأمنية واضحة سيُفسَّر "تجريداً من أدوات البقاء" لا بادرة سلام. ويجب أن يُربط بسلّة من الحوافز الاجتماعية والسياسية، لا أن يُقدَّم شرطاً أمنيأً أحادي الجانب... لا يكفي التوجه الإداري أو الأمني، بل يجب أن يكون التوجه سياسيّاً – أخلاقيّاً – إنسانيّاً. الرسالة الرمزية أن الدولة لا تعتبر الفلسطينيين "قنبلة موقوتة" بل مكوّناً يحتاج احتضاناً، وتحرّكات دبلوماسية محكمّة تحافظ على التوازنات في ظل أفق إقليمي محفوف بالمخاطر والتحديات.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية