
تشير الوثائق الرسمية إلى سرقة الاحتلال الإسرائيلي أرشيفات فلسطينية كاملة، تشمل سجلات بلديات يافا وحيفا والقدس (1920–1948)، المحفوظة في الأرشيف الصهيوني المركزي، ومكتبات مؤسساتية مثل المعهد العلمي الإسلامي بالقدس، وجمعية الشبان المسيحية بيافا، وأرشيف صحيفتَي "الدفاع" و"فلسطين" المصنفتَين تحت رمز "J-PAL" في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، إضافةً إلى ما تخفيه مكتبة الكونغرس من أكثر من 22 ألف صورة فلسطينية مُصادَرة ضمن أرشيف ماتسون (LC-M32)، بينما تُسجّل الجامعة العبرية 1200 كتاب عربي فلسطيني باعتبارها مقتنيات خاصة.
من بين الكتب التي تسلّط الضوء على المرحلة السياسية بين عامي 1921 و1938، كتاب "فلسطين الشهيدة"، الذي صدر سرّاً عام 1938، وأعادت وزارة الثقافة الفلسطينية إصداره عام 2023، باعتباره وثيقة نادرة من صور ونصوص توثّق جرائم الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني.
يضمّ الكتاب 67 صفحة تُظهر مجازر من ثورة البراق عام 1929، والثورة الكبرى عام 1936، بمشاهد صادمة لتدمير القرى، وإعدامات ميدانية، وضحايا حُرقوا بماء الفضة، وأطفال تحت الأنقاض. وقد ظلّ اسم مؤلفه مجهولاً خوفاً من بطش البريطانيين آنذاك.
صور ومصطلحات تاريخية تحاكي مشهد الإبادة اليومي في غزة
تكشف الصور المرفقة بالكتاب عن تواطؤ البريطانيين في التطهير العرقي، ومساندة المشروع الصهيوني الذي قام منذ بدايته على القتل والحرق والتدمير. وتَظهر عبر النصوص القصيرة والمعلومات المرافقة للصور مصطلحات لا تزال حتى يومنا هذا تعكس النظام والعقلية ذاتَيهما، مثل: "اغتيال"، "إعدام"، "حرق الآدميين"، "قصف البيوت"، وهي مصطلحات تحاكي المشهد اليومي في غزة بين عامَي 2023 - 2025، وما سبقهما من قتل مستمر وتدمير ممنهج، لتؤكد استمرار أساليب الإبادة نفسها منذ قرن.
تبرز قيمة هذه الصور في مواجهة سياسات محو الأرشيف الفلسطيني منذ الانتداب البريطاني، وصمودها أمام حملات الحذف الرقمي ضد المحتوى الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعي، وتواطؤ شركات كبرى مثل "مايكروسوفت" مؤخراً، عبر حذف أو عدم إيصال الرسائل الإلكترونية التي تتضمّن مصطلحات مثل الإبادة، وفلسطين حرة، وغزة، في الوقت الذي حُذِف فيه أكثر من 795 ألف صورة أو منشور يوثّق جرائم الحرب الصهيونية على الفلسطينيين، بينما بقي 590 ألف منشور تحريضي عبري. ورغم ذلك، يبقى هذا الأرشيف شاهداً على الصمود التاريخي الذي يربط بين ثوار الماضي وأطفال غزة الذين يُدفنون تحت الأنقاض.
استعادة الأرشيف
في ظل تشتّت الأرشيف الفلسطيني وسرقته، كما حدث مع أرشيف مركز الأبحاث في بيروت عام 1982، ظهرت جهود لجمع الصور المفقودة، كان من أبرزها مشروع "ألبوم العائلة" للمتحف الفلسطيني، و"أرشيف فلسطين الرقمي"، حيث تُرقمن الصور من مجموعات عائلية مثل أرشيف واصف جوهرية، الذي وثّق الحياة المدنية في القدس خلال فترة الانتداب البريطاني. وتُعدّ هذه الصور نادرة جداً، لا سيّما الصورة الفلسطينية في مواجهة الصورة الاستشراقية التي قدّمت قراءات مختلفة عن الواقع أو خدمت سياسات استعمارية مقصودة.
صورة فلسطينية في مواجهة الصورة الاستشراقية المختلفة عن الواقع
ومن خلال محاولة استعادة جزء من الأرشيف التاريخي لفلسطين، فقد توزّع الأرشيف المرئي الفلسطيني للأعوام السابقة لعام 1948 بين مكتبات أجنبية كمكتبة الكونغرس، وأرشيفات استعمارية إسرائيلية مثل "الأرشيف الصهيوني المركزي"، وألبومات عائلية متناثرة في الشتات. وفي العقود الثلاثة الأخيرة، تكثّفت الجهود للبحث ورصد أي وثيقة أو صورة تشير إلى المرحلة التي سبقت نكبة عام 1948، باعتبار أن هذه الفترة مفقودة بصريّاً، ما شكّل قطيعة متّصلة بين زمنين، ودفع العديد من المهتمين إلى العمل على تكثيف جهود الأرشفة البصرية وجمع الذاكرة المتفرّقة، عبر محاولات فردية وشبه مؤسساتية لتوثيق الحياة الاجتماعية والثقافية في مدن فلسطين وقراها، باعتبار ذلك حالة مقاومة للغياب والنفي والإنكار، ضد الرواية الصهيونية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
وقد ساهمت الصور التي التقطها مصوّرون فلسطينيون، مثل واصف جوهرية (1912–1984)، – وقد سُرقت بعض أعماله ووُضعت في مكتبة الكونغرس ضمن مجموعة إريك وأديسون – وخليل رعد (1880–1941)، الذي وثّق الحياة والأسر الفلسطينية والأماكن المقدسة، وسُرقت صوره التي تجاوزت ثلاثة آلاف صورة نُقلت إلى متحف روكفلر في القدس، بالإضافة إلى مصوّر يافا كريم صايغ (1940–1988)، وكريمة عبّود (1893–1940)، وغيرهم، في إبراز ملامح ثقافية واجتماعية واقتصادية ومعمارية، حملت وعياً مبكّراً بأهمية التوثيق، ورصد الحياة النشطة في فلسطين، وصولاً إلى المرحلة التي تصاعد فيها التهديد الصهيوني، وبدأت تتضح فيها معالم مشروع الإحلال المدعوم من سلطة الانتداب البريطاني.
غير أن هذه الذاكرة البصرية تعرّضت، مع النكبة، إلى مصير مزدوج من المصادرة والنفي، عبر سرقة آلاف الوثائق والصور العائلية والمؤسسية أثناء الاجتياح الإسرائيلي للمدن والقرى، ونقلها إلى أرشيفاتهم، التي صُنّفت ضمن خطاب القوة المنتصرة. وهذا ما حرم الفلسطينيين من بناء علاقة بصرية متّصلة بين الماضي والحاضر، وأصبح الوصول إلى الأرشيف المسروق من الأمور الصعبة والممنوع استخدامها، خصوصاً للفلسطينيين، ما دفع العديد من الأفراد والمؤسسات للعمل بشكل دؤوب على استرجاع ما أمكن من ماضي الصورة، باعتبارها موروثاً وطنيّاً ضروريّاً.
في السنوات الأخيرة، بدأت تتشكّل مشاريع مضادّة تسعى لاستعادة هذه الذاكرة البصرية باعتبارها جزءاً من معركة على الحاضر، لتظهر مبادرات مثل "أرشيف فلسطين الرقمي"، و"ألبوم العائلة" التابع للمتحف الفلسطيني، التي تسعى إلى جمع الصور العائلية والمنشورات القديمة وشهادات الأفراد، وإعادة قراءتها في سياقها الفلسطيني الأصلي. وعلى الرغم من الجهود المتفرّقة التي بُذلت منذ النكبة لجمع المواد البصرية الفلسطينية، فإنّ عملية التوثيق بين دفّتي كتاب ظلّت مرتبطة بمبادرات فردية ومؤسسات بحثية مستقلة أكثر منها سياسة ثقافية ممنهجة. ومنذ السبعينيات، عمل باحثون فلسطينيون في الشتات، مثل إلياس صنبر، وكمال بلاطة، ووليد الخالدي، على جمع صور ووثائق أرشيفية نُشرت لاحقاً في كتب مثل "فلسطين في الصور" و"قبل أن تُمحى الذاكرة".
* فنان تشكيلي فلسطيني
