
هل يمكن للفنّ أن يكون حرّاً في ظلّ منظومة رأسمالية تُسخّر كل شيء لمراكمة الربح؟ هذا هو جوهر الإشكالية التي يطرحها الكاتب والناشط الاشتراكي البريطاني الراحل جون مولينو (1948-2022) في كتابه "ديالكتيك الفنّ"، الصادر حديثاً عن "دار ليون للنشر" في القاهرة، بترجمة عربية لرسّام الكاريكاتير والمترجم المصري أشرف عمر، المعتقل بسبب آرائه السياسية. في هذا الكتاب، لا يتعامل مولينو مع الفن لكونه منتجاً جمالياً، بل نتاجاً اجتماعياً مشحوناً بالتوترات الطبقية والتناقضات التاريخية. يُضيء الكتاب على زاوية غالباً ما يتم تجاهلها، وهي العلاقة الجدلية بين الفن والرأسمالية.
توتر بين الفنانين والرعاة
يدعونا مولينو منذ صفحات الكتاب الأولى إلى رحلة تنقيب فكري ممتعة ومتوترة في آنٍ، تمتد من عصر النهضة حتى اللحظة المعاصرة، يُسلّط فيها الضوء على الصراع العميق بين الإبداع الفردي والنظام الاقتصادي الرأسمالي. ينظر مولينو إلى الفن البصري الغربي من خلال عدسة ماركسية تحليلية، كاشفاً عن التوتر التاريخي المستمر بين الفنانين، أفراداً يسعون للتعبير الحر، وبين الرعاة من الباباوات والمليارديرات، الذين سخّروا الفن لخدمة نفوذهم وسلطاتهم. ومع ذلك، فإن هؤلاء الفنانين، في كثير من الحالات، لم يكونوا مجرد أدوات، بل مارسوا مقاومة ضمنية وصريحة من داخل هذا النظام نفسه، وباستخدام الفن كأداة للتشكيك، والنقد، والتمرد.
أحد أعمدة الكتاب الفكرية هو التمييز بين العمل الإبداعي والفن من جهة، والعمل المأجور المُغترب، كما يُسميه المؤلف، والذي يهيمن على علاقات الإنتاج الرأسمالية. فالفنان، بحسب مولينو، يُنتج عملاً يتوحّد فيه الشكل والمضمون، ويستحيل أن ينفصل عن السياق العاطفي والذهني والاجتماعي لمبدعه، وهذه الوحدة الحميمية هي ما يمنح الفن عظمته.
يُحذّر مولينو من الوقوع في فخ التصنيفات المانوية بين ما يُطلق عليه "فن يساري جيد" وآخر "يميني سيّئ". فالتمييز الجوهري لا يقوم على انتماء سياسي، بل على قدرة العمل الفني على التعبير عن الواقع الاجتماعي ومجابهته، لا مجرد عكسه أو تصويره. وهنا تكمن القيمة التحليلية التي يُقدّمها المؤلف في قراءة الفنّ، ليس كقيد، بل كأداة تفسير وتحرير.
الفن لا يعيش في فراغ بل تصوغه القوى الاجتماعية والتاريخية
في فصل لا يخلو من الجرأة، يناقش الكاتب السؤال الذي يتحاشاه كثير من النقاد المعاصرين، وهو: ما الذي يجعل من عملٍ ما عملًا فنيّاً عظيماً؟ وهل يجوز أصلاً إصدار أحكام جمالية؟ يرفض مولينو الخضوع للموضة الفكرية التي تُروّج للنسبية المطلقة، ويؤكد أن معظم البشر، سواء أدركوا أم لا، يُصدرون أحكاماً على الفن باستمرار. لذا، لا مانع من محاولة فهم هذه الأحكام، شرط ألا تكون نُخبوية أو مُغلقة، بل منفتحة على معايير مثل المهارة، والتعبير، والقوة العاطفية، والارتباط بالواقع الاجتماعي. وبهذا، يُدخِل مولينو الماركسية من أوسع أبواب النقد الفني، لا لتكميم الفن، بل لفهمه بشكل أكثر عمقاً وإنسانية، كما يقول.
الفن بوصفه أداة تحليل
يرصد الفصل الأخير من الكتاب تحوّلاً كبيراً في طبيعة المواد والموضوعات الفنية مع تطوّر المجتمعات، من الرخام والذهب إلى الطوب والنيون، ومن لوحات الملوك والنبلاء إلى وجوه الناس العاديين. لكنه يلفت أيضاً إلى ظاهرة استيعاب الفن المُتمرّد داخل مؤسسة الرأسمالية، حيث يتم تبنّي فنانين مثل بانكسي وجيف كونز من شركات عملاقة، وحتى وكالات استخبارات! مما يطرح تساؤلاً خطيراً حول تدجين التجارب المتمردة والرافضة للواقع السياسي والاجتماعي. لا يكتفي مولينو هنا بنقد الماضي والحاضر، بل يمدّ بصره نحو المستقبل. يتخيّل فنّاً جديداً يولد من رحم الصراع البيئي، في مواجهة أزمة الكوكب. فنٌّ لا يخدم الاستهلاك، بل يشارك في بناء عالم أكثر إنسانية واستدامة.
في هذا الكتاب، تتجلّى أطروحة مركزية لا يمكن تجاهلها، وهي أن الفن لا يعيش في فراغ، بل يتحرّك دائماً ضمن شبكة معقدة من القوى الاجتماعية والتاريخية. ولعلّ أبرز ما يُميز معالجة مولينو هو قدرته على تفكيك الأسطورة الليبرالية للفن الحر، ليكشف كيف أن المؤسسات، سواء كانت كنسية أو سوقية، قد شكّلت الذوق الفني وساهمت في توجيهه. غير أن هذا لا يأتي على حساب قدرة الفن على المقاومة، بل العكس؛ فكل عمل فني يحمل داخله بذور المواجهة والتجاوز. ومن هنا، يُعيد الكتاب الاعتبار للفن كأداة تحليل وفهم، تماماً كما هو أداة جمال ومتعة، والتعامل معه ليس فقط كمرآة للواقع، بل مطرقة لكسره.
يتجاوز كتاب "ديالكتيك الفن" كونه مجرد دراسة فكرية في تاريخ الفن، إذ يبدو كبيان سياسي وثقافي لمفكر مستنير يرى في الفن قوة مقاومة ومجالاً للتحرّر. إنه دعوة مفتوحة لإعادة التفكير في دور الجمال، لا كترف برجوازي، بل كفعل حقيقي يفتح نوافذ التفكير نحو وعي مختلف. وما يمنح النسخة العربية من هذا الكتاب أبعاداً أعمق وأكثر صدقاً هو مصير مترجمها، الفنان والمثقف أشرف عمر، القابع في السجون المصرية بسبب أفكاره ومواقفه. فهنا، لا يعود النص مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل يتحوّل إلى شهادة حيّة على الصراع بين الكلمة والسلطة، وبين الإبداع والقمع، أو بين من يصنعون المعنى ومن يحاولون مصادرته.
يذكر أن الراحل جون مولينو هو كاتب ومفكّر بريطانيّ، له عدة مؤلفات هامة في الفكر اليساري، من بينها: "ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟" (1985)، و"رامبرانت والثورة" (2001)، و"الأناركية: نقد ماركسي" (2011).
* كاتب من مصر
