
لطالما شكّلت المتاحف مصدر إلهام للشعراء في العالم الغربي، وأثارت لديهم تساؤلات فلسفية عميقة حول الجمال والذاكرة والتاريخ. وقد تباينت مواقفهم منها بين الاحتفاء والرفض، بحسب نظرتهم إلى دور المتحف في تشكيل الوعي البشري. من بين هؤلاء، الشاعر الإنكليزي الكبير دبليو. إتش. أودن، الذي كتب في عام 1938 قصيدته الشهيرة "متحف الفنون الجميلة" بعد زيارته متحف الفنون الملكي في بروكسل. لاحظ أودن كيف يُعبَّر عن أهوال الألم البشري في الأعمال الفنية دون أن يجري الانتباه إليها، كما في لوحة بروغل "مشهد سقوط إيكاروس"، حيث يواصل الفلاح حرث أرضه غير آبهٍ بغرق الشاب في البحر. كانت الرسالة الفلسفية هنا عميقة: المأساة الإنسانية غالباً ما تُهمَل وسط انشغالات الحياة اليومية، ويُحوّلها المتحف، بحكم طبيعته، إلى مادة جمالية تجرّدها من أبعادها الوجودية.
في المقابل، هناك شعراء نظروا إلى المتحف بعين الريبة، ورفضوا رمزيّته السلطوية. فالشاعرة الأميركية أدريان ريتش، على سبيل المثال، رأت في المتحف مؤسسة مرتبطة بالسلطة والمال، تعيد إنتاج التاريخ من منظور المنتصر، وتقصي أصوات المهمّشين. في هذا الإطار، ما يُغيَّب عن المتحف لا يقل أهمية عمّا يُعرض فيه، بل قد يكون الغياب دليلاً على صراع شرس حول الذاكرة والهوية، ومن يُسمح له بالحضور في السرد التاريخي ومن يُقصى منه.
يمكن أن نذكر هنا أيضاً الشاعرة الأميركية كارولين فورشي، التي تخيّلت في قصيدتها الشهيرة "متحف الحجارة" متحفاً بديلاً مصنوعاً من بقايا شخصية وسياسية: حجارة منازل مدمّرة، وشظايا من ذاكرة الحرب. فورشي، التي عايشت أهوال العنف والقمع، رفضت فكرة المتحف التقليدي الذي يجمّل الماضي، ودعت إلى ذاكرة صادقة ومفتوحة، حتى لو كانت مؤلمة، مشيرة إلى أن الحفظ الحقيقي لا يتطلب التجميل والتمويه بل الاعتراف بالخراب.
قصائد كتبها للمتحف شعراءٌ ينتمون إلى ثقافات في خمس قارات
وسط هذا التباين، تواصَل التفاعل بين الشعر والمتاحف في الغرب، واستمرت تجربة الكتابة عن المتاحف بوصفها مرايا لأسئلة الإنسان المعاصر. وفي هذا السياق، صدرت مؤخراً عن منشورات مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس (2024)، بالتعاون مع متحف اللوفر، الترجمة الإنكليزية لكتاب بعنوان "في متحف اللوفر: قصائد لمئة شاعر معاصر من العالم".
كان الكتاب قد صدر أولاً بالفرنسية، وهو أنطولوجيا شعرية طموحة تضم قصائد كتبها خصيصى للمتحف شعراء ينتمون إلى ثقافات مختلفة في خمس قارات، واستُلهمت كل قصيدة من عمل فني أو فضاء معماري أو تجربة جمالية داخل أروقة اللوفر. حرّر الكتاب أنطوان كارو، وإدوين فرانك، ودوناتيان غرو، واحتوى على مقدمة بقلم مديرة المتحف لورانس دي كار.
تُرجمت القصائد من لغات عدّة كالعربية، والفرنسية، والألمانية، والصينية، والهولندية، ما يعكس الامتداد الكوني للوفر بوصفه مؤسسة ثقافية عالمية. وشارك في الكتاب شعراء عرب بعضهم يكتب باللغة العربية والبعض الآخر باللغة الفرنسية، مثل: اللبنانية فينوس خوري غاتا، والفلسطيني نجوان درويش، والمغربيين عبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون، والعراقي علي العطار، والإماراتية نجوم الغانم، إضافة إلى غيرهم.
لحظة شعرية تحتفي بالفن داخل قاعات الارتكابات الكولونيالية
ماذا تعني الكتابة عن متحف بوزن اللوفر شعرياً؟ يمكن القول إن الشاعر يقرأ الحاضر بعدسة الماضي، والماضي بعدسة الحاضر، ويستحضر جماليات حضارات قديمة بما تثيره من أفكار عن عظمة فنية، وما تطرحه من تساؤلات في زمن مضطرب يتسم بالسرعة والتقلّب. فالمتحف مكان للجمع والعرض، مؤلَّفٌ من طبقات تنتمي إلى عصور وبلدان مختلفة. ويُعدّ متحف اللوفر من أبرز المعالم الثقافية في العالم، لكن الكثير من مجموعاته، لا سيما القادمة من العالم العربي، تعكس تاريخاً طويلاً من النهب والاستحواذ أثناء فترات التوسع الاستعماري الفرنسي.
بدأت علاقة فرنسا بالآثار العربية مع حملة نابليون على مصر عام 1798، والتي، رغم ادعاءاتها العلمية، أسّست لعملية ممنهجة لسرقة الآثار ونقلها إلى باريس، ومن ثم توسعت البعثات الفرنسية إلى العراق وسورية ولبنان. وفي القرن التاسع عشر، أرسلت فرنسا بعثات أثرية إلى بلاد الرافدين، نقلت من خلالها تماثيل ونقوشاً ضخمة من مواقع مثل نينوى إلى متحف اللوفر. وحدث ذلك في بعض الأحيان بموافقة سلطات الدولة العثمانية. ولاحقاً، في ظلّ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، أصبحت عملية النقل أكثر تنظيماً، وجرى عرض آثار مهمة مسروقة من مواقع مثل تدمر في اللوفر خارج سياقها التاريخي والثقافي. ورغم أن المتحف يبرّر احتفاظه بهذه القطع بأنها تخدم "التراث الإنساني"، فإن المطالب العربية باستعادة الآثار تزايدت في ضوء وعي متنامٍ بقضية العدالة الثقافية.
وبينما بدأت فرنسا بإعادة بعض الآثار الأفريقية، لا تزال مسألة استعادة الآثار العربية حساسة ومعقّدة. فاللوفر، رغم مكانته الثقافية، يظل شاهداً على تاريخ من الهيمنة الثقافية، ونهب التراث الإنساني في العالم العربي، وهو إرث لا يمكن تجاهله في النقاشات المعاصرة حول الاسترداد والتصالح مع الماضي الاستعماري.
يغيب الإيحاء القوي بالتاريخ الاستعماري للوفر والنهب المصاحب له في الكتاب، كما تغيب أسماء مهمة لشعراء عرب آخرين من دول عربية تعرّضت لسطو ثقافي ممنهج. كان بإمكان هذا التنوع أن يُغني الكتاب شعرياً، عبر الغوص في طبقات هذا التاريخ. يتوقف شعراء الكتاب عند الاحتفاء بتماثيل وأصص ولوحات وقطع في المتحف، ويبنون قصائدهم عليها، في محاولة لتوليد المعنى في لحظته المعاصرة من خلال الانتقال من الشيء إلى الكلمة، والبحث عن صلة بين الحاضر والماضي، أو عن طريق سفر في الأعماق الأسطورية للمرئي.
تغيب أسماء لشعراء عرب من دول تعرّضت لسطو ثقافي ممنهج
في مقدمتها للكتاب، تقول لورانس دي كار إن قصر ومتحف اللوفر يشكّلان جزءاً من تاريخ الشعر، لهذا يحاول الكتاب أن يعكس الهويات المتعددة لهذا الفضاء. فالمتحف مكان يضم مئات الغرف، وكلّ منها قد تتيح كشفاً شخصياً. وهو أيضاً مكان يتتبع مسيرة البشرية من القرن الثامن قبل الميلاد حتى يومنا هذا، ما يجعل استكشاف الزمن العابر جزءاً جوهرياً من تجربة المتحف والشعر معاً. وتوضح دي كار أن الهدف من الكتاب هو مواصلة العلاقة بين المتحف والشعر، ولهذا جرت دعوة مئة شاعر معاصر من قارات العالم الخمس لكتابة قصائد عن اللوفر، الذي أصبح "ربة إلهامهم"، كونه مستودعاً للفن. وتضيف دي كار أن كتاب "في اللوفر" لا يشكّل أنطولوجيا خارجية، بل هو تجلٍّ لشيء ينبع من داخل المكان ذاته.
لكن اللوفر ليس فضاءً ثقافيًا بريئاً ورغم تنوّع القصائد وأهمية الأسماء التي نُشر لها في كتاب "في اللوفر" وتباين أساليبها الفنية وقدومها من لغات متعددة، إلا أنها تظل انعكاساً للحظة شعرية تحتفي بالفن داخل قاعات فارغة من التاريخ والارتكابات الكولونيالية. وربما نحتاج إلى جزء ثان يضم شعراء يستحضرون في قصائدهم القطع المسروقة ويستلهمون قصصها وجمالياتها كي يحاولوا إعادة بناء ذاكرة ثقافية مقطعة الأوصال. لم يغب هذا عن أحد الشعراء المشاركين في الكتاب، الهندي فيفيك نارايانان، المختص في الأنثروبولوجيا الثقافية، الذي قال في قصيدته: "إن المتحف هو أجمل اللصوص/ كلّ ما أعرفه يتّفق معي على ذلك/ إنه يصنعُ وجبةً طيّبة ورائعةً من الأحزان ويستيقظُ في كَرَمٍ غريب".
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة
