
في وقت تجتاحنا صور جثث الأطفال المتفحّمة في حرب الإبادة في غزّة، تدور حلبات "النضال" في مقاهي بيروت في ثرثرة اللقاءات، مباشرة أو الكترونيا، "احتفالا" بانتصارات وصمود أو شيطنة لأعداء و"عملاء" حقيقيين أو متخيّلين. هل هذه الثرثرة من أشكال التـضامن مع ضحايا المقتلة المتواصلة في ساديتها في غزّة أم أنها محاولة للتغطية على فراغ المعنى في مدينة تحاول أن تستعيد أنفاسها بعد حرب مدمرة لم يسبق لعنفها مثيل ويبدو أنها لن تنتهي تماما في وقت قريب؟ هل لا يزال للكلام الخشبي المكرّر أي وزن في وجه مأساة بحجم إبادة؟ وهل ينفع في مقارعة الفراغ الذي بات يرسم معالم مدينة متغيرة لم تعد تشبه نفسها؟
في بيروت المتعبة، الكلام وسيلة لتمييع الوقت في مدينة تبدو بطيئة وساكنة على غير عادتها. الاحتفال بالحياة بعد حرب حملت معها أشكال خطر غير مسبوقة لا يشبه ما كان عليه في اعتياد اللبنانيين عودتهم للمرح بعد كل مصاب سريعاً فور انقضائه. يقول بعضهم إن المرح لم يتوقف أساسا في البلاد على عادة المناطق البعيدة عن النزاع في تجاهل ما يجري حولها. إلا أن إرادة حب الحياة أو"الفرفشة" تبدو كامدة، وكأن المرح بوصفه حالة لبنانية خاصة لا بد منها بين أزمة وأخرى، لم يعد ينفع. تقول الناشرة والكاتبة رشا الأمير، في "بودكاست" لموقع درج الإلكتروني، إن بيروت اليوم مدينة متألمة وممزّقة. ولذا لا يجوز أن نحملها أي شيء، بل علينا أن نشكرها. لعل كلام الأمير هو الأكثر واقعية في وصف حال المدينة في حين نشعر بنوع من العتب أو خيبة الأمل، لكونها لم تعد تشبه تلك التي نعرفها واعتدنا أن نراها، مشعّة بالحياة أو أقله لامبالية بالأزمات، في ما كان يعتبر إبداعاً لبنانياً خالصاً. هنا لم يعد لكلمة صمود معنى، بل تبدو أكثر شبها بفعل التعب والاستسلام له. وقد يكون استسلاماً لا بد منه.
تبدو ثرثرة المقاهي البيروتية كلاماً خشبياً عارياً من أي إحساس بفداحة الخسارة، ربما لعدم الإقرار بها أو للاعتياد على يوميات الموت. تقول إحداهن إنها لا تشعر بالقدرة على التواصل مع الغربيين، لأنها لا ترى أي علاقةٍ أو صلةٍ ممكنةٍ معهم، في حيت تعلق شابة، في حديث هاتفي، إن التاجر كذا عميل إسرائيلي تجب مقاطعته. تتحاور شابّتان بحدّة في جدل سياسي عاشته الأولى فتقول الثانية معلقة: لو كنت مكانك لما جادلتها أساسا، بل صفعتها على وجهها. ثرثرة أو غضب أو ملل وتضييع وقت؟ يبدو التعايش مع أخبار القتل السادي في غزّة من بيروت أخفّ وقعاً بكثير مما هو الحال في لندن أو أي مدينة غربية أخرى حيث نعيش، نحن المغتربون، أخبار الإبادة ونتصفّح صورها وحيدين من دون دعم المجموعة أو الجماعة التي تنتمي إليها، ومن دون خفة ثرثرة المقاهي. لا تحمل هذه الثرثرة، أقله كما عشتها، أي تواصل عاطفي مع الضحايا، بل إنها تحول هؤلاء إلى مناسبةٍ للجدال السياسي وتسجيل المواقف. وكأن تطبيع الإبادة، أي تحويلها إلى مناسبة عادية، أمر أكثر احتمالاً وقبولاً مع القرب الجغرافي من مسرح الجريمة. وكذا، لا تحمل هذه الثرثرة أي تواصلٍ فعليٍّ مع ضحايا الحرب في لبنان التي لم تنته بعد فعليا، وسط سرديات الانتصار أو السخرية منها. لم يقدّم الإعلام اللبناني أي استقصاء أو مقاربة لما يدور في داخل المجموعة الأكثر تعرّضا للعنف الإسرائيلي، في بيئة حزب الله الاجتماعية أو محيطها. هل هذا الغياب يمكن تفسيره بالخوف من التخوين والرغبة في التزام التهذيب السياسي، في غياب إمكان الوصول إلى مصادر منسوبة وواضحة في الرواية، أم أنه الكسل أو مجرّد الملل أو التعب؟
يبدو هدوء بيروت هدنةً أكثر منه مرحلة انتقالية من الحرب إلى السلم
تعبيرات جديدة فجّة خارجة عن سياق التهذيب السياسي والتعليب دخلت على السردية الإعلامية أخيراً في وصف المقتلة اليومية ضد المدنيين في غزّة. لعل أبرز هذه التعبيرات وصف المتحدث السابق باسم "أونروا"، كريس غانيس"، عملية توزيع المساعدات الإسرائيلية الأميركية بتحويل غزّة إلى ما يشبه "المسلخ البشري"، حيث "يُساق مئات المدنيين كالحيوانات إلى حظائر مسيّجة، ويُذبحون كالأبقار في هذه العملية" في تصريح قدّمه ل"الجزيرة" الانكليزية. كذا، وصفت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ميريانا سبولياريك، غزّة بأنها أصبحت أسوأ من الجحيم على الأرض، متحدّثة عن مشاهداتنا اليومية الصادمة، لنزع كرامة المدنيين في شكل كامل وغير مسبوق، في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) التي خرجت هي الأخرى، ولو بشكل محدود، عن "تعقيم" روايتها عن الإبادة. في المقابل، لا يحتلّ الضحايا المدنيون حيزاً مهمّاً من سجالات المقاهي البيروتية، التي قد تكون انعكاساً لحوارات على شاشات التلفزة، حيث حسابات الربح والخسارة وتسجيل الأهداف في الحيز السياسي هو الشغل الشاغل. هل هو الاعتياد على مشاهدة مشاهد القتل حتى في أبشع أشكاله أو التعرّض لصور نزع إنسانية الضحايا في أشكال غير مسبوقة؟ هل يمكن اعتبار الجدل السياسي المتجاهل ضحايا الحرب أحد أشكال نزع الإنسانية عنهم أيضا؟ أم أن هذه الثرثرة المتعالية على الألم نوع من إنكار آثار تروما حربٍ فاقت ما عرفه اللبنانيون من عنف في حروب سابقة؟
يبدو هدوء بيروت هدنةً أكثر منه مرحلة انتقالية من الحرب إلى السلم. تدور ثرثرة المقاهي على ضفاف إبادة رهيبة تصل إلينا مشاهد عنفها السادي يومياً، وبالتفصيل عبر وسائط "السوشيال ميديا". قد لا تكون هذه الثرثرة فعل لامبالاة، بل تعبيراً يبدو أقرب من التعب من تكرارٍ بات لا يحتمل. مدينة جديدة قديمة تعود إلى الحياة كلما تنهض من حربٍ أو أزمة، لكن بيروت اليوم مدينة غريبة.

أخبار ذات صلة.


