
في خطوة غير مسبوقة، دعا الملك محمد السادس المغاربة إلى عدم ذبح الأضاحي هذا العام، مراعاةً للظروف الصعبة التي تمر بها البلاد بسبب الجفاف وارتفاع أسعار الأعلاف.
المناشدة، التي جاءت بصيغة رمزية ودينية، فتحت نقاشاً واسعاً حول مدى استعداد المجتمع لتقديم التضامن على حساب العادة، وكشفت عن تباين كبير بين من تجاوب مع النداء ومن تمسك بطقوس العيد ولو في الخفاء.
مناشدة ملكية
في خطوة غير مسبوقة، دعا الملك محمد السادس، من خلال رسالة سامية تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية يوم 26 فبراير/شباط 2025، إلى عدم ذبح الأضاحي خلال عيد الأضحى، مراعاةً لتراجع القطيع الوطني وظروف الجفاف وغلاء الأعلاف.
هذه المناشدة الرمزية، التي جاءت بلغة دينية دون صيغة الإلزام، فتحت نقاشاً وطنياً واسعاً حول مدى استعداد المجتمع لتغليب روح التضامن على إكراه العادة.
وفي هذا السياق، يرى الدكتور محسن بنزاكور، الأخصائي في علم النفس الاجتماعي، أن الملك لم يصدر قراراً صريحاً، بل اختار أن يوجه نداءه بلغة الضمير، معتمداً على مسؤولية المواطن المغربي.
وأضاف بنزاكور، في تصريح لـ”عربي بوست” أن “الرسالة الملكية استندت إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية: أولاً، لأن القطيع الوطني يعاني أزمة في التوالد، وكان من الضروري إتاحة الفرصة لانتعاشه. ثانياً، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، والتي تستوجب تخفيف الأعباء عن كاهل الأسر. وثالثاً، لتفادي تعميق الفوارق الاجتماعية، ومنع الشعور بالحيف لدى الأسر التي لا تقوى على شراء الأضحية”.
وتجلت هذه الثقة كذلك في الصيغة التي وردت بها المناشدة، حيث جاء في نص الرسالة الملكية: “ومن منطلق الأمانة المنوطة بنا، كأمير للمؤمنين والساهر الأمين على إقامة شعائر الدين وفق ما تتطلبه الضرورة والمصلحة الشرعية… فإننا نهيب بشعبنا العزيز إلى عدم القيام بشعيرة أضحية العيد لهذه السنة”.
وبذلك بدت الرسالة الملكية معتمدة على المرجعية الدينية للمؤسسة الملكية، دون فرض إلزام قانوني مباشر، ما جعل الاستجابة مرهونةً بحس المسؤولية الجماعية.
غير أن هذا الأسلوب الأخلاقي والرمزي سرعان ما اصطدم بواقع اجتماعي مركب، حيث ما زال عيد الأضحى بالنسبة لفئات عريضة من المجتمع طقساً اجتماعياً لا تكتمل بهجته إلا بالأضحية والشواء.
انقسمت التفاعلات على منصات التواصل بين من أبدى استعداداً للتجاوب مع النداء، ومن اعتبر المناشدة مسا بالتقاليد المتوارثة. فبينما دافع البعض عن مقولة “العيد بلا أضحية ليس عيداً”، رأى آخرون أن الملك مارس أعلى درجات المسؤولية السياسية والدينية حين دعا إلى تخفيف الضغط عن القطيع.
لكن، كما يوضح بنزاكور، “كان من المنتظر أن يكون تفاعل المغاربة مع هذا النداء بنفس مستوى المسؤولية. لكن، كما يحدث دائماً، هناك من يستجيب، وهناك من لا يستجيب”، موضحاً أن البعض خضع لما نسميه “الضغوط الاجتماعية” بكل أشكالها ومبرراتها، سواء تمثلت في الأعراف والتقاليد، أو في الإحساس بالنقص، أو غير ذلك.
هكذا تحولت المناشدة إلى رهان على الضمير الجماعي، لكن دون أن تصمد أمام إكراهات الطقوس، فتحولت الأضحية من طقس علني مشترك إلى ممارسة فردية خلف الأبواب.
وفي هذا السياق، برزت تعبيرات مختلفة عن التحايل، كاقتناء الأكباش تحت مسمى العقيقة أو حفلات الزفاف والختان، هرباً من الكلفة الرمزية لكسر العادة، ومحاولةً لحفظ ماء الوجه الاجتماعي.
طقوس خلف الأبواب
في أحياء مدينة سلا، شمال العاصمة الرباط، غابت الأكباش عن الشوارع، وخلت الأزقة من أصوات الثغاء المعتادة، لكن في المقابل، عادت رائحة الشواء من خلف الجدران، وتسللت روائح العيد عبر النوافذ المغلقة.
يؤكد عبد الرحمان المجدوبي، رئيس الجمعية الوطنية لمربي الأغنام والماعز، أن ما حدث هذا الموسم هو التفاف على المناشدة الملكية، ففي الوقت الذي باع عدد من المهنيين مواشيهم بأثمنة منخفضة بشكل كبير، استغل بعض الجزارين الظرفية لصالحهم، فارتفعت أسعار اللحوم بدرجة كبيرة، وكذلك الرأس وأجزاء أخرى من الذبيحة “الدوار”، وبدأت على مواقع التواصل أصوات تتهم الكسابين بالربح غير المشروع، بينما المتضرر الحقيقي، حسب المجدوبي، هو “الكساب” (مربي الماشية).
ويرى فؤاد، جزار يعمل منذ عشرين عاماً في سلا، أن العيد هذه السنة لم يمر دون أضاح، بل شهد حركة غير معتادة، حيث كان الناس يأتون للسؤال عن نصف خروف أو ربع خروف، ومنهم من يطلب توصيل الطلب إلى البيوت، لم تكن هناك مظاهر خارجية، لكن الطلب لم يتوقف.
ويضيف المجدوبي أن المشكلة لم تكن في من اشترى، بل في الرسالة التي ضاعت، فالإجراء الذي كان يهدف إلى استعادة توازن القطيع تلقى ضربة من هذا التهافت السري.
ويؤكد مربو ماشية أن العديد من الزبائن اختاروا الذبح تحت يافطات أخرى، واستمروا في اقتناء الأكباش من خارج الأسواق الرسمية.
ويقول خالد، صاحب ضيعة صغيرة في بوقنادل (ضواحي مدينة سلا)، إن الناس يتصلون مباشرة من أجل اقتناء الأكباش، بعضهم يقول إنها لعقيقة أو حفل زفاف أو ختان، لكننا نعلم جيداً أن الأمر يتعلق بعيد الأضحى.
وتقول سعاد، ربة بيت من نواحي تيفلت، إن أسرتها اقتنت الأضحية وأعدتها ككل عام، رغم المناشدة الملكية، وتضيف، في حديثها لـ”عربي بوست”: “قمنا بعملية الذبح في البادية، بشكل هادئ وبعيد عن العلن، لم نرغب في لفت الانتباه، لكننا لم نستطع كسر عادة التصاقنا بهذه الشعيرة”.
ورغم لجوء بعض المواطنين إلى أساليب التحايل على المناشدة الملكية، عبر اقتناء الأضاحي مسبقاً أو التحجج بمناسبات بديلة، فإن فئة أخرى فضلت الالتزام بروح النداء واختارت، منذ الأيام التي سبقت العيد، أن تتعامل مع المناسبة كأي يوم عادي، لم تسع وراء الأكباش، ولم تنخرط في سباق اقتناء اللحوم، بل استقبلت المناسبة بهدوء، معتبرة أن التضامن مع الوطن ومع القطيع أسمى من طقس ظرفي يمكن الاستغناء عنه في ظل أزمة استثنائية.
موسم اللحم في محلات الجزارة
في الوقت الذي كان ينتظر الجميع تراجع مؤشرات الطلب على الأضاحي، واختفاء مظاهر العيد من الفضاء العام، ارتفعت بشكل مفاجئ في محلات الجزارة.
في مدينة سلا، وتحديداً في أحياء مثل بطانة وتابريكت وحي الرحمة، وقف المواطنون في طوابير طويلة أمام محلات الجزارة يومين قبل العيد، بعضهم ينتظر دوره لاقتناء نصف ذبيحة، وآخرون يطلبون تجهيز كميات من اللحم لتوزيعها على الأقارب أو إعداد وجبات الشواء.
في جولة ميدانية لـ”عربي بوست”، بدت محلات الجزارة وكأنها تسد فجوة نفسية واجتماعية تركها غياب طقس الذبح التقليدي. فالمواطنون لم يتخلوا عن الأضحية كمظهر اجتماعي، بل اختاروا اختزالها في جوهرها المادي، وتحولت إلى كيلوغرامات من اللحم الملفوف في أكياس بلاستيكية، جاهزة للشواء، تغذي مشاعر الانتماء إلى العيد ولو شكلياً.
سعيد، جزار بحي تابريكت، عبر عن دهشته من كثافة الطلب في يوم توقع فيه أن يركد السوق، قائلاً لـ”عربي بوست”: “كنت أظن أن الإقبال سيكون ضعيفاً بسبب المناشدة الملكية، لكن المواطنين يتقاطرون على المحل، كل وطلبه حسب قدرته، وبعضهم اشترى لحوماً تكفي عائلة كاملة وكأنهم أقاموا الذبح فعلاً”.
ويفسر محسن بنزاكور، المتخصص في علم النفس الاجتماعي، هذا الإقبال الكثيف بكونه يرتبط بالمخيال الجماعي، إذ يعتقد بعض المغاربة أنه لا يمكن أن يكون هناك عيد بدون الطقوس المصاحبة له، مثل الشواء وطقوس “الدوارة” وغيرها من المظاهر المرتبطة بعيد الأضحى، رغم أن الدين لا يربط العيد بهذه المظاهر، لأن الأضحية في الأصل سنة وليست فرضاً.
ومن العوامل التي يمكن أن تفسر هذا السلوك، وفق بنزاكور، “نزعة لدى بعض الأفراد نحو الاستجابة لنزوة الشراء والاحتفال، لكن دون إحساس فعلي بمسؤولية هذا الاحتفال أو مشروعيته الدينية”، وهو ما يعكس، برأيه، “تنازلاً عن كل المبادئ التي يفترض أن ترافق شعيرة الأضحية، من البعد الديني، إلى البعد الاقتصادي، إلى بعد المواطنة والانتماء، بل حتى الإحساس بالتضامن مع من لا يستطيع القيام بهذه الشعيرة”.
بهذا المعنى، بدت محلات الجزارة وكأنها تحولت إلى مراكز رمزية لتجسيد طقس الأضحية، دون أن يُرى الكبش أو تُسمع صيحة الذبح، وهكذا، اختبأ الطقس خلف الجدران، واحتفظ بمظهره في شكل شوايات مشتعلة وأطباق ممتلئة.
وفي مقابل هذا الإقبال الكثيف على محلات الجزارة، تعالت على منصات التواصل الاجتماعي أصوات غاضبة تنتقد ما وصفوه بلهطة اللحوم، معتبرين أن العيد تحول لدى البعض إلى موسم شره جماعي، حيث غابت المعاني الدينية وتقدمت الطقوس المادية على كل اعتبار.
وذهب بعض المعلقين إلى اعتبار أن العيد فقد روحه الدينية، وأصبح مجرد طقس جماعي لأكل اللحم، فيما رأى آخرون أن المناشدة الملكية كشفت عن هشاشة القيم، وأن فئة واسعة لم تستطع مقاومة نداء العادة، حتى لو تقنعت بشراء كيلوغرامات قليلة في الخفاء.
هذا الخطاب لم يخلُ من إشارات إلى معاناة الأسر الفقيرة، إذ عبّر البعض عن صدمتهم من مشاهد الطوابير، في وقت تعاني فيه البلاد من غلاء المعيشة وندرة الأعلاف وارتفاع أسعار اللحوم. وتساءل أحدهم: هل كنا بحاجة إلى فتوى ملكية حتى نراجع علاقتنا بلحم العيد؟ أم أن الطقس بات أقوى من الضمير؟
القطيع الوطني في مهب العادات
بين فصول الجفاف ومواسم الأعياد، يقف القطيع الوطني في وضع هش، لا يهدد فقط عدده بل استمراريته كركيزة من ركائز السيادة الغذائية.
وقد كان من بين دوافع المناشدة الملكية بالامتناع عن ذبح الأضاحي لهذا العام، منح القطيع فرصة لاستعادة دورته الحيوية، بعد أن كشفت التقارير الرسمية عن تراجع مقلق في خصوبته، حيث أكد وزير الفلاحة، أحمد البواري، خلال ندوة صحافية أعقبت اجتماع المجلس الحكومي خلال شهر فبراير/شباط الماضي، أن القطيع الوطني شهد تراجعاً بنسبة 38 في المئة منذ سنة 2016، نتيجة سبع سنوات متتالية من الجفاف وغياب المراعي، ما أدى إلى اعتماد شبه كلي على الأعلاف، وانعكس سلباً على الأسعار.
وأوضح أن المغرب كان يذبح سنوياً نحو 230 ألف رأس، لكنه أصبح يذبح حالياً ما بين 130 و150 ألفاً فقط، مع تغطية الخصاص عبر الاستيراد، بفضل التسهيلات الضريبية على رؤوس الماشية واللحوم الحمراء.
ويرى المجدوبي أن العادات الاجتماعية، حين تضعف الاستجابة المجتمعية للتوجيهات الوقائية، قد تفرغ الإجراءات من معناها، قائلاً: “نحن كمهنيين نعيش الأثر الحقيقي على القطيع، عندما يغيب العلف ويُغلق السوق، ينخفض الإنتاج، وهذا يفقد الدورة التناسلية توازنها، وهذا الإقبال السري على الذبح زاد الطين بلة، وأفقد القطيع فرصته في التعافي”.
ويحذر محسن بنزاكور من تحول السلوك الجمعي إلى نمط يصعب احتواؤه، موضحاً أن الطقس الديني تحول عند البعض إلى واجب اجتماعي، والذبح صار يُمارس إرضاءً للمحيط أكثر من كونه عبادة فردية.
لم يكن استهلاك اللحوم بديلاً بيئياً آمناً، بل تحول إلى عنصر ضغط إضافي على السلسلة الغذائية. فالمواطن الذي لم يذبح، عاد ليستهلك اللحوم بكميات غير معتادة، ما دفع الجزارين إلى مضاعفة المشتريات من الأسواق، وتغذية دورة الاستهلاك من خارج المنظومة المنظمة.
بهذا المعنى، بدت المناشدة الملكية وكأنها محاولة إنقاذ لقطاع يتآكل بصمت، لكنها اصطدمت بثقافة قائمة على اعتبار الأضحية تقليداً غير قابل للنقاش، لا مجرد سنة مؤجلة.
وبين انكماش الخصوبة، وغياب الرعي، وارتفاع تكلفة الأعلاف، يبدو القطيع المغربي كما لو أنه يواجه أزمة وجود، في انتظار أن تتحول طقوس العيد إلى وعي جماعي بحجم الخطر الغذائي المحدق بالبلاد.