فسيفساء الإسكندرية... الآثار تبحث عن متحف يؤويها
عربي
منذ 15 ساعة
مشاركة

في أحد أركان حي الشاطبي في الإسكندرية (شمالي مصر)، وعلى مسافة خطوات من مكتبة الإسكندرية الحديثة، تقف بوابة رخامية ضخمة، تتوسطها زخارف هلك أغلبها، تُفضي إلى موقع يبدو للوهلة الأولى مهجوراً أو تحت الإنشاء.
لكن من يدقّق النظر، يدرك أن ما خلف البوابة ليس مجرد أرض فضاء، بل هو موقع أثري نادر يُعرف باسم الفسيفساء، يختزل طبقات من التاريخ السكندري، ويطرح رغم صمته سؤالاً مُلحاً: لماذا تُهمل المدينة تراثها بهذه الصورة؟
الموقع الذي يحتوي على أرضيات فسيفسائية تعود إلى الحقبة الرومانية، اكتُشف قبل سنوات خلال أعمال حفر في المنطقة. منذ ذلك الحين، أُحيط بسور حديدي، وتعدّدت الأحاديث الرسمية عن النية لتحويله إلى متحف مفتوح أو مزار أثري، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقّق، وبات الفسيفساء نموذجاً حياً لمواقع أثرية عديدة في الإسكندرية اكتُشفت صدفةً، ثم نُسيت عمداً تحت أكوام البيروقراطية والإهمال.
الصور القليلة التي تسربت للموقع، بعد أن أهدت محافظة الإسكندرية أرض المتحف إلى المجلس الأعلى للآثار لإنشاء أول متحف متخصص في مصر وحوض البحر الأبيض المتوسط، لعرض فن الموزاييك، تكشف عن أرضيات مرصوفة بزخارف هندسية دقيقة، تتشابه إلى حد بعيد مع نماذج معروضة في متاحف كبرى. لكن المفارقة أن هذه التحف ما زالت تحت السماء، تتآكلها العوامل المناخية وغياب الحماية.
فى البداية يقول عضو اللجنة الدائمة للآثار، أحمد عبد الفتاح، نحن أمام ثروة قومية معطلة، وموقع من طراز نادر يحتوي على كنوز أثرية عثر عليها تجسد فنون العصر اليوناني والروماني، لا يقل أهمية عن المسرح الروماني أو سراديب كوم الشقافة، لكنه مهمل تماماً".
يوضح عبد الفتاح في حديثة لـ"العربي الجديد" أن المجلس الأعلى للآثار أعلن عن مشروع طموح في منطقة باب شرق بالإسكندرية لإنشاء أول متحف متخصص في فن الفسيفساء، ليس فقط على مستوى مصر، بل على مستوى منطقة البحر المتوسط بأكملها، بهدف عرض هذه القطع الأثرية، من بعد تجميعها من متاحف ومواقع الجمهورية بمعرفة لجنة تضم كبار الأثريين وأساتذة الآثار المتخصصين.
يضيف عبد الفتاح: وُضع حجر الأساس رسمياً عام 2009، وقد خُصص للمتحف تمويل بقيمة 200 مليون جنيه (أربعة ملايين دولار) على مرحلتين، وكان من المفترض أن يضم قاعات عرض ومرافق خدمية، إلى جانب مسرح مكشوف لإقامة الفعاليات والاحتفالات الثقافية غير أن المسار السياسي الذي شهدته البلاد بعد ثورة يناير 2011 ألقى بظلاله على المشروع، إذ توقفت أعمال الإنشاء ولم يُستكمل سوى الأساسات وبعض المباني الخدمية، ليتحول الحلم إلى مشروع مجمّد طواه النسيان.
وعن طبيعة القطع المجمعة، يقول الخبير الأثري إنها متنوعة الأحجام، لكن بينها قطعا كبيرة جدًا تصل إلى أربعة أمتار في ستة أمتار. وتحتاج إلى قاعات كبيرة لعرضها، مشيراً إلى أنه جُلبت قطع فسيفساء نادرة من متحف القنطرة ومواقع فى محافظتي البحيرة وسيناء، فضلاً عن التي كُشف عنها ضمن حفريات المجلس الأعلى للآثار خلال الفترة من 1995 حتى الآن في سيناء، وأيضاً في منطقة كوم الدكة بالإسكندرية .
يشير الباحث الاثري والعضو في مبادرة لحماية التراث السكندري، عمر فرج، إلى أن "الأزمة ليست في قلة الموارد فقط، بل في غياب الإرادة، والجهات المسؤولة تتبادل اللوم: هل يتبع الموقع وزارة الآثار؟ أم تحت ولاية المحافظة؟ هذا الغموض يُفقد المدينة فرصاً نادرة للاستثمار الثقافي والسياحي".
يضيف فرج، في تصريحات لـ"العربي الجديد": "هذا الوضع لا يخص موقع الفسيفساء وحده، فالإسكندرية التي كانت قبلة للمعرفة والفنون، تعج بالمواقع الأثرية التي لم تر النور بعد. ففي منطقة كوم الدكة وحدها، اكتُشف حي سكني روماني شبه متكامل، لكن أغلبه لا يزال مدفوناً. وفي منطقة المكس، تنتشر أقاويل تفيد بوجود معبد يوناني لم تُستكمل أعمال التنقيب حوله، لكن كل هذه الكنوز تظل حبيسة الملفات والدراسات".
بدوره، يشير أستاذ الآثار في كلية الآداب في جامعة الإسكندرية، عزت حامد، إلى أن مشكلة الحفاظ على التراث في مصر ليست فنية، بل إدارية وتشريعية بالأساس، مضيفاً: "لدينا خبرات وكفاءات، لكن لا توجد خطة قومية واضحة أو ميزانية مستقلة لإدارة المواقع الأثرية غير الشهيرة، والتي لا تدر دخلاً مباشراً".
يصف حامد حالة فسيفساء الإسكندرية بـ"فقر الخيال الإداري"، معتبراً أن غياب القدرة على تخيّل إمكانيات جديدة للمواقع الأثرية يتسبب في فقدان قيمة الكثير من المواقع الأثرية في الإسكندرية.
ويقترح إنشاء هيئة مستقلة لإدارة التراث الحضري، تضم ممثلين عن وزارات الثقافة والآثار والسياحة والإسكان، وتُمنح صلاحيات مباشرة لوضع خرائط استغلال حضاري لهذه المواقع، بما يضمن حمايتها وتحويلها إلى موارد مستدامة.

بدورها، تقول مديرة تسجيل وتوثيق متاحف الإسكندرية، إيمان محسن شهاوي، إن مدينة الإسكندرية لطالما عُرفت بشغفها العميق بالفنون منذ العصور القديمة، وكان لفن الفسيفساء فيها مكانة مميزة منحها سمعة واسعة النطاق معربة عن أملها في استكمال المشروع قريباً.
وترى أن عودة متحف الموازييك في الإسكندرية إلى الحياة مرة أخرى واستكمال إنشاءاته، يمثّل عودة إلى دور مدرسة مدينة الإسكندرية القديمة في فن الفسيفساء، وسيساهم في ربط المدينة سياحياً بدول هذا الفن، ومنها بلدان شمال أفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط.

توضح الشهاوي أن هناك كنوزاً من الفسيفساء من الممكن عرضها في متحف الموزاييك بعد إنشائه، مثل لوحة ديونيسوس باخوس التي عُثر عليها على عمق ثمانية أمتار أسفل المدرج الروماني، وحالياً معروضة على جدران فيلا الطيور، ولوحة الصليب والأشكال الهندسية التي عثر عليها فى إحدى الفلل بشارع البورتيكو أمام المدرج الروماني، ولوحة الدولفين الأبيض والأسود المكتشفة في إحدى فلل كوم الدكة والمخزنة حالياً فى المخازن المتحفية، إضافةً إلى لوحات الزهرة المتفتحة، وأرضيات بزخارف هندسية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية