
في عمق جنوب قطاع غزة المحاصر، وتحديداً في مستشفى غزة الأوروبي، تتجسّد واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلاماً في زمن الحرب، ألا وهي مأساة الأطفال الخدج في غزة، أولئك الذين وُلدوا قبل أوانهم، والذين يحتاجون إلى رعاية صحية دقيقة وحساسة، وجدوا أنفسهم في قلب كارثة طبية بعد قصف المستشفى بقنابل شديدة الانفجار في 13 من مايو/أيار 2025.
كاد القصف الإسرائيلي في ذلك التاريخ أن يتسبب بكارثة إنسانية، حينما أصابت إحدى الشظايا محطة توليد الأكسجين الموجودة في الفناء الخارجي للمشفى، الأمر الذي تسبب بحدوث تسريب في موصلات الأكسجين داخل الحاضنات، ولكن رعاية الله كانت حاضرة في ذلك الحدث المأساوي، حيث تدارك الأطباء الموقف بشكل سريع، واستعانوا بالأنظمة البديلة لضخ الأكسجين داخل الحاضنات.
تسبب القصف الإسرائيلي آنذاك بأضرار بالغة في أقسام المستشفى، حيث تصدّعت مبانيه لدرجة أن بعض الجدران والأسقف انهارت نتيجة الغارات العنيفة، كما تعرّضت البنية التحتية فيه لأضرار جسيمة، وتحديداً شبكات المياه والصرف الصحي.
دفع هذا الوضع إدارة المستشفى إلى إعلان خروجه عن الخدمة، والإيعاز لكافة الطواقم الطبية العاملة فيه، والمرضى، والجرحى، والمرافقين، لإخلائه فوراً، حيث جرى التنسيق لنقلهم إلى مجمع الناصر الطبي وسط المدينة.
حضانات لا تغطي كافة الأطفال
يشير رئيس قسم الأطفال في المستشفى، الطبيب أحمد جبارة، في حديث لـ”عربي بوست”، إلى أن “قسم المواليد كان يضم عدداً محدوداً من الحاضنات بالكاد يغطي حاجة الأطفال الخدج الأطفال الخدج في غزة قبل الحرب، ولكن مع تصاعد وتيرة الاستهدافات الإسرائيلية للمشافي خلال الحرب على غزة، تم نقل العشرات من الأطفال الخدج من مستشفيات مدينة غزة وشمالها إلى مستشفى غزة الأوروبي، ليُضطر الأطباء للعمل بخمسة أضعاف قدرة الحاضنات”.
وتابع: “يضم المستشفى 12 حاضنة أطفال تكفي حتى 24 طفلاً، وفي حالات الطوارئ الشديدة يمكن زيادة العدد حتى 3 أطفال في الحاضنة الواحدة، ولكن المستشفى كان يضم في لحظة القصف 59 طفلاً من الأطفال الخدج الأطفال الخدج في غزة، بمتوسط 5 أطفال في الحاضنة الواحدة، رغم أن هذا يخالف البروتوكول الطبي الذي تحدّده منظمة الصحة العالمية بألا يزيد العدد عن 3 أطفال في الحاضنة الواحدة”.
ونوّه الطبيب جبارة إلى أن “مستشفى غزة الأوروبي هو المستشفى الثاني في مدينة خان يونس الذي يضم حاضنات الأطفال الخدج، إلى جانب مجمع ناصر الطبي، وعند إخلاء المستشفى بعد قصفه كدنا أن نفقد العشرات منهم بسبب عمليات النقل الطارئ التي تمت بسرعة وبإجراءات طبية استثنائية، إذ لم نستطع الالتزام بكافة الإجراءات السليمة، كما أن اختلاف درجات الحرارة والرطوبة والإضاءة والاهتزاز الناجم عن عمليات النقل بسبب تردي الطرق الإسفلتية كاد أن يتسبب بفقدان الأطفال حياتهم”.
واستدرك: “نقلنا القسم بشكل كامل إلى مجمع الناصر الطبي، على الرغم من أنه يعمل بطاقة استيعابية مضاعفة، ونخشى من أن يؤدي هذا الضغط من المواليد في الحاضنات إلى ضغط متزايد على كميات الأكسجين في المستشفى”.
مستشفى غزة الأوروبي
يقع المستشفى إلى الشرق من محافظة خان يونس جنوبي القطاع، وتحديداً في حي الفخاري، وتبلغ مساحته 65 دونماً (الدونم يساوي ألف متر مربع)، ويضم سعة سريرية تبلغ 308 أسرّة، فيما يبلغ عدد الكادر الطبي العامل فيه 891 موظفاً، منهم 184 طبيباً، و338 ممرضاً، و369 فنياً من كافة التخصصات الطبية والمهنية.
ويُعتبر ذا خصوصية فريدة، إذ إنه المستشفى الوحيد الذي يقع على بعد مئات الأمتار من الشريط الحدودي، ويقدّم المستشفى خدمات طبية متكاملة، وتضم أقسامه: الاستقبال والطوارئ، رعاية الطفل، الأمراض الجلدية، أمراض الجهاز التنفسي، الباطنة، العظام، الجراحة، الأورام، القلب، الأعصاب، العيون، وغيرها من الأقسام.
الأطفال الخدج في غزة: حياة تبدأ في العتمة
يُعرَف الأطفال الخدج في غزة بأنهم الأطفال الذين يُولَدون قبل موعد ولادتهم الطبيعية المحددة بأربعين أسبوعاً، حيث يُوضَعون في حاضنات خاصة لإكمال نموهم بطريقة سليمة، من خلال تلقيهم رعاية طبية استثنائية، حيث يبقون في حاضنات موصولة بالأكسجين على مدار الساعة، وعادةً ما يُولَدون بوزن أقل من الوزن الطبيعي، وتكون رئتاهُم ودماغهم غير مكتملَي النمو.
في غزة، انعكس تدمير الاحتلال لمستشفيات القطاع على واقع الأطفال الخدج في غزة، حيث عانوا من انقطاع الكهرباء، ونقص الأدوية، لدرجة أن كثيراً منهم فارقوا الحياة نتيجة القصف المباشر والانهيار الكلي في البنى التحتية التي أصابت المستشفيات.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فقد تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة بتدمير 15 مستشفى بشكل كامل، فيما لا تزال تعمل 21 مستشفى بشكل جزئي، حيث لحقت أضرار بمعظمها من جراء القصف الإسرائيلي.
يشير مدير عام المستشفيات الميدانية بوزارة الصحة في غزة، الطبيب مروان الهمص، لـ”عربي بوست” إلى أن “خدمات الطوارئ التوليدية ورعاية الأطفال حديثي الولادة لا تتوفر إلا في 7 من أصل 18 مستشفى يعمل جزئياً في جميع أنحاء القطاع، وفي أربعة من أصل 11 مستشفى ميدانياً فقط”.
وتابع: “وصلت حالات الإجهاض بين النساء الحوامل خلال الحرب لأكثر من 300%، حتى أننا نشهد ارتفاعاً في حالات الوفاة للنساء الحوامل أثناء الحمل والولادة أو بعد الولادة”.
واستناداً إلى مسح أجرته هيئة الأمم المتحدة في إبريل/نيسان 2024، على عينة شملت 305 سيدات حوامل، تبيّن أن 68% منهن يعانين من مضاعفات طبية، وأن 92% يعانين من التهابات في المسالك البولية، و76% يعانين من فقر حاد في الدم، و44% يعانين من اضطرابات في ارتفاع ضغط الدم، وأن 28% منهن اضطررن للولادة المبكرة، منهن 20% عانين من نزيف أثناء الولادة، كما أن 16% منهن وَلَدْن أجنة ميتين.
ووفقاً لتقرير حقوقي صادر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان في يناير/كانون الثاني 2025، فقد تم توثيق وفاة أكثر من 1038 حالة من حديثي الولادة.
شهادات من الميدان
تشير القابلة نسرين الصوفي، العاملة في قسم الأطفال المواليد بالمستشفى، لـ”عربي بوست”: “كل يوم نودّع طفلاً جديداً، ليس لأن حالته كانت ميؤوساً منها، بل لأن الكهرباء انقطعت، أو لأن الأكسجين نفد، أو لأن الحاضنة تعطّلت بفعل غارة قريبة. هذه مذبحة تجري بصمت”.
أما والدة الطفلين أيمن وباسم كلاب، فقد انفطر قلبها حزناً حينما فقدت طفليها في إحدى الغارات التي أصابت مستشفى دار السلام بمدينة خان يونس، حيث سقطت قذيفة مدفعية على قسم الحاضنات ليفارقا حياتهما على الفور.