
وسط أنقاض البيوت والمصانع المهدمة والمدارس التي تحوّلت إلى ملاجئ، تقف غزة على أعتاب تحدٍّ هائل، يتمثل في إعادة إعمار القطاع. ورغم أن المشهد قد يبدو في ظاهره مسألة تتعلق بالتمويل، إلا أن الواقع يكشف عن تعقيدات أعمق، أبرزها أن "المعابر لا الأموال" هي العقبة الأبرز في طريق أي مشروع إعمار جدي.
ويتفق المختصون على أن تشغيل المعابر بانتظام واستدامة هو التحدي الأكبر، فبدونه، ستبقى جهود الإعمار رهينة الوعود غير المنجزة. على مدى سنوات الحصار، أغلقت إسرائيل المعابر بمعظمها، ولم تُبقِ سوى معبر "كرم أبو سالم" في جنوب القطاع، والذي لا يغطي الحد الأدنى من احتياجات 2.4 مليون فلسطيني.
وتشير تقديرات دولية إلى أن عملية إعادة إعمار غزة قد تستغرق ما بين 7 إلى 10 سنوات في حال توفر التمويل واستقرار المعابر، فيما قد تمتد إلى أكثر من 15 سنة إذا استمرت القيود المفروضة على إدخال المواد الأساسية، مثل الأسمنت، والحديد، والمعدات الثقيلة. ويشمل الإعمار المرتقب إصلاح شبكات المياه، والكهرباء، والطرق، وبناء آلاف الوحدات السكنية، وترميم المدارس والمستشفيات، وإعادة تشغيل المصانع والمناطق الصناعية.
في مؤتمرات الإعمار الدولية السابقة (كمؤتمر القاهرة 2014)، تعهّدت دول عديدة بضخ أموال ضخمة، لكن الجزء الأكبر من هذه الوعود لم يُنفذ. وتعهّد المانحون في مؤتمر القاهرة بتقديم 5.4 مليارات دولار للفلسطينيين، نصفها مخصص لإعادة إعمار القطاع.
رغم هذه التعهّدات، أشار البنك الدولي في تقرير عام 2016 إلى أن المانحين التزموا بتقديم 46% فقط من إجمالي التعهدات. وفي عام 2016، عقدت الحكومة الفلسطينية مؤتمراً مع المانحين لمراجعة عملية إعادة الإعمار، إذ تبيّن أن نسبة الأموال التي وصلت إلى إعادة إعمار القطاع بلغت 30% فقط.
وقال نائب رئيس لجنة الطوارئ في وزارة الأشغال العامة والإسكان، محمد عبود، في حديث لـ "العربي الجديد"، إن عدد الوحدات السكنية المتضررة في غزة تجاوز 500 ألف وحدة، موزعة على النحو التالي: 200 ألف وحدة تضررت كلياً، 100 ألف وحدة، دُمّرت كلياً وأصبحت غير صالحة للسكن، 200 ألف وحدة أخرى تضررت جزئياً. وأوضح أن هذه الأرقام تمثل كارثة إنسانية وعمرانية غير مسبوقة، وتُضاعف من أعباء السكن لمئات الآلاف من العائلات، خصوصاً مع انعدام البدائل السكنية المناسبة.
وقدّر عبود تكلفة إعادة إعمار قطاع الإسكان فقط بنحو 15 مليار دولار، بينما تصل التقديرات الإجمالية لإعادة إعمار غزة بكافة قطاعاتها المتضررة إلى أكثر من 50 مليار دولار، وفقاً لتقييمات أولية أعدّتها الوزارة. وأوضح أن وزارة الأشغال وضعت خطة إعمار تنقسم إلى مرحلتين؛ الأولى وهي الإنعاش المبكر التي تراوح بين ستة أشهر وسنة، وتتمثل في توفير كرفانات (منازل مؤقتة) لإيواء قرابة 200 ألف أسرة مشردة، وترميم 100 ألف وحدة غير صالحة للسكن لتأمين مأوى سريع، إلى جانب إزالة الركام الناتج عن القصف، والذي تُقدّر كميته بأكثر من 50 مليون طن.
وأشار إلى أن القطاع يفتقر إلى المعدات الثقيلة اللازمة لهذا العمل الضخم، ما يستدعي إدخال آليات من خارج القطاع. وتطرق عبود إلى الحديث عن المرحلة الثانية من إعادة الإعمار، والتي ستستمر لفترة تراوح بين 3 إلى 4 سنوات، مشيراً إلى أنها تتمثل في إعادة بناء الوحدات السكنية المتضررة كلياً وجزئياً، وتشمل هذه المرحلة مشاريع سكنية كبرى، وبنى تحتية متكاملة، وتحديث الأحياء السكنية المتضررة.
وشدّد المسؤول بوزارة الأشغال على أن تنفيذ هذه الخطة يعتمد كلياً على فتح المعابر دائماً وكلياً، والسماح بإدخال مواد البناء دون تأخير أو قيود، والمعدات الثقيلة الخاصة بإزالة الركام، ومستلزمات الإيواء والمشاريع السكنية. في حين، أكّد المهندس المدني وصاحب أحد المكاتب الهندسية بمدينة غزة، إبراهيم الحجار، أن أكثر من 51 مليون طن من الركام غطّت قطاع غزة نتيجة العدوان المتواصل، في وقت لا تزال فيه الحرب مستمرةً، ما يزيد من تعقيد جهود التقييم والإعمار.
وقال الحجار في حديث لـ "العربي الجديد" إن مناطق كاملة، مثل رفح ومخيم جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، شهدت دماراً شبه كلي، لافتاً إلى أن التدمير لم يقتصر على المساكن فحسب، بل طاول أيضاً المدارس والمستشفيات وشبكات البنية التحتية كالمياه والكهرباء وشبكات تصريف الأمطار. وأوضح أن أي مشروع لإعادة الإعمار مرتبط بانتهاء الحرب ورفع الفيتو الإسرائيلي على دخول مواد البناء والمعدات الثقيلة، معتبراً أن ذلك يمثل "الجزء الأهم" من المعادلة.
وفي رؤيته المستقبلية، أشار الحجار إلى أن المخيمات، مثل مخيم جباليا، بحاجة إلى إعادة تخطيط حضري شامل، بعد عقود من الاكتظاظ وضعف شبكات البنية التحتية، "اليوم هناك فرصة ذهبية لإعادة تصميم هذه المناطق على نحو عصري وعمودي بدلاً من التوسع الأفقي، ما يسهم في تحسين جودة الحياة وتنظيم العمران".
وفيما يتعلق بإزالة الركام، أوضح أن العملية تمر عبر مسارين؛ الأول يتمثل في إعادة تدوير الركام عبر مصانع كسّارة لإنتاج الطوب الخرساني، والثاني استخدام الركام في مشاريع ردم بحرية أو إنشاء موانئ جديدة.
